الرجل الوسيم، ذو العينين الزرقاوين، تعود أصوله الى بلدة شحور في جبل عامل، قرب مدينة صور. قدم الى لبنان للمرة الأولى في العام 1957، بدعوة من المرجع الشيعي الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين، أحد مرجعين شيعيين استقطبا الوعي الديني الشيعي في النصف الأول من القرن الماضي (الثاني هو المرجع السيد محسن الأمين).
أقام الصدر، الذي سبقته شهرته من مدينة قم الإيرانية كما في النجف الأشرف، والذي تربطه صلة قرابة بآل شرف الدين، عند السيد عبد الحسين في صور، وعقد في ذلك المنزل سلسلة من جلسات الحوار، اتسمت بالطابع الديني وجمعت شخصيات علمائية رفيعة. زيارات الصدر الى مراجع دينية وبيوتات عائلية في صور ومنطقتها كما في جبل عامل، جعلته يستقطب المعجبين والمؤيدين.
ترك غياب المرجع شرف الدين في العام 1958، فراغا كبيرا، فطالبت فاعليات الطائفة الشيعية بذلك السيد المعمم، ذو الثلاثين عاما، للقدوم الى لبنان والحلول مرجعا للطائفة الشيعية، بعدما ترك اثرا طيبا لدى زيارته الأولى، وسرعان ما استجاب للطلب.
حضر "السيد موسى" الى صور، وسرعان ما بدأ في اجتذاب الناس عبر شخصيته القيادية الساحرة وخطابه العذب وأخلاقه العالية، كما عبر صبره الدؤوب وقدرته على استيعاب الاخصام الذين سرعان ما بدأوا بمحاربته وعلى رأسهم آل الأسعد وعلماء الدين المقرّبين منهم، كما خاصمه «المكتب الثاني» في مرحلة الرئيس فؤاد شهاب.. وكان من سخرية الاقدار ان شهاب نفسه اضطر الى منحه الجنسية اللبنانية في العام 1961!
اتخذ السيد من الكلية الجعفرية منطلقا لدعوته التي تخطت الجنوب الى البقاع حيث استقطب المناصرين بعد زيارات عدة الى تلك المنطقة، ورفع الامام شعار إزالة الحرمان عن أبناء الطائفة مثلما طالب بإزالته عن كل محروم من دون استثناء، وهو أولى اهتماما بأحزمة البؤس في الكرنتينا وبرج حمود والنبعة.. كما قصد العاصمة بيروت عبر الكلية العاملية وفتح له آل بيضون بابا نحو الفاعليات الشيعية في المدينة خصوصا التجار منهم.. وشملت دعوته أيضا مدينة صيدا حيث أقام صلات وثيقة بتيار قومي عربي كان من أبرز رموزه عائلتي البزري وسعد.. وطبعا ربطته علاقة عميقة بآل عسيران في المدينة. كبرت دعوة الصدر ككرة الثلج، وباتت تهدد واقع الزعامات الشيعية الكبرى، وحاول أعداءه، في المدينة وخارجها، إيقاعه بشتى الوسائل، ومن بينها تلك غير الأخلاقية التي دفعته الى مغادرة البلاد انتصارا لكرامته.. لاحقا، تم تشكيل وفد لبناني طالب المرجع الشيعي العراقي البارز محمد باقر الصدر بعودة الصدر.. فكان ان استجاب وعاد برفقة الوفد الى لبنان.
الطائفة.. ولبنان
رأى الصدر ان الوقت حان ليخرج أبناء الطائفة من فوضويتهم وتبعيتهم للإقطاع، فكان لا بد من انشاء كيان خاص بهم عبر إنشاء «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» وقصد ان ينطلق المجلس بدعوته من منطقة الحازمية ذات الغالبية المسيحية. وكذلك كان الحال مع "حركة المحرومين" التي تشكلت من نخبة من المثقفين والمتمولين الشيعة ومن مثقفين من طوائف مختلفة، أوكل رئاستها الى حسين الحسيني بمساعدة مجموعة من المقربين من بينهم رياض طه والدكتور علي الحسن وأحمد قبيسي وأحمد إسماعيل وغيرهم. أراد الصدر عبر حركته التأكيد على أهمية القضية الاجتماعية، مطالبا بعدالة الانماء لتشمل المحرومين من مختلف الطوائف. كانت باختصار، حركة شعبية محلية ذات أبعاد وطنية، تدعو الى الإنماء الشامل، والأهم، العادل.
طالب الصدر بوضع السلطة السياسية أمام مسؤولياتها لتجنب الانفجار الذي حدث في العام 1975، والذي حمل أسبابا خارجية وظروفا محلية، لكن الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي شكل ابرز الظروف المهيئة لهذا الانفجار. آمن بعدالة القضية الفلسطينية، ودعم العمل الفلسطيني المسلح بعد نكسة العام 1967، وذهب الى التأكيد مرارا ان إسرائيل هي شر مطلق، وتحالف مع «منظمة التحرير الفلسطينية» وخصوصا مع زعيمها ياسر عرفات الذي كانت قد استتبت له الأمور في المنظمة خلفا لأحمد الشقيري. لكن الصدر أقلقته حالة الفلتان الأمني في الجنوب، وبتأسيسه أفواج المقاومة اللبنانية "أمل"، وجّه رسالة للعدو كما للصديق ان "السلاح زينة الرجال" ليس شعارا للاستهلاك، بل لحماية الجنوبيين من العدو إسرائيل، كما من حالة الفوضى التي استشرت خصوصا في فترة السبعينيات من قبل الفصائل الفلسطينية و"الميليشيات" اللبنانية الموالية لها.
الحرب.. للتوطين
في تلك المرحلة، استشعر الامام خطورة الأوضاع وحجم المؤامرة على لبنان لتوطين الفلسطينيين وانهاء قضيتهم. ولذلك نبذ الفراق الداخلي ورفض تورط "منظمة التحرير" و"الحركة الوطنية" في الصراع المسلح الداخلي، ولم يتعب من مناشدة الجميع ترك السلاح والشروع في الحوار لحل الازمة الداخلية..اصطدم الصدر بـ "راديكالية" كمال جنبلاط الذي لم يكن يرغب بأية حلول وسط مع اليمين المسيحي، ونقل البعض كلاما عن الصدر أن جنبلاط يريد القتال "حتى آخر شيعي"، كون أبناء الطائفة الشيعية كانوا يشكلون الخزان الشعبي الأساس لـ"الحركة الوطنية".. أقام الصدر علاقة سياسية مميزة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. حاول استثمارها للتوسط بين كمال جنبلاط والأسد لكن من دون نتيجة.
خصومته مع "الحركة الوطنية" انسحبت على "الجبهة اللبنانية"، وكان يحذر من أن الأزمة كبرت حتى خرجت عن قدرة اللبنانيين والفلسطينيين معاً. كان البلد على فوهة بركان، ولم يكن من بديل عن التدخل السوري منعا للتوطين كما للتقسيم. لذا، أيد الصدر هذا التدخل في العام 1976، بوصفه سيشكل خلاصا لهذا البلد من التقسيم الذي كان سيتحقق برأيه مع إقدام اليسار اللبناني على توريط المقاومة الفلسطينية بخيار حسم الحرب عسكريا. ولعل أكثر ما كان يؤلم الصدر تلك الاتهامات الجارحة من قبل الخط الحليف، التي كيلت له بالوقوف ضد المقاومة الفلسطينية، وبضرب الخط الوطني، حتى ان البعض ذهب الى اتهامه بالتورط في شكل غير مباشر بمجازر تل الزعتر.. ومن السخرية بمكان ان البعض الآخر، في المقابل، قد اتهمه بالتحريض على معركة الدامور!
اجتمع الكل للتحريض عليه، لكن الأهم بالنسبة إليه كان وقف الحرب، ولعل الاعتصام والاضراب عن الطعام في مسجد «الصفاء» في رأس النبع "احتجاجاً" على استمرار الحرب الأهلية في لبنان، لخمسة أيام متتالية، شكل التعبير الأكبر عن ألم الصدر مما آلت اليه الأمور في البلاد.
المبادرة الأخيرة
في محاولة للخروج من الأزمة العميقة في البلاد، عمل الإمام على تأسيس حالة وطنية مستقلة، علها تقدم مشروعا للنهوض. تواصل مع الرؤساء سليمان فرنجية وشارل حلو وعادل عسيران وصبري حماده، حتى انه فاتح خصمه الرئيس كامل الأسعد بالأمر.. كما قصد الصدر العميد ريمون إده الذي كان قد غادر لبنان بعد محاولات عدة لاغتياله، والذي تعهد للصدر بالعودة الى لبنان فور تأسيس تلك القيادة.. كما اتصل الصدر بالرئيس صائب سلام وحتى بكمال جنبلاط أملا بتحقيق خرق في جدار الأزمة.. وكان في نيّة الصدر الاتصال بقادة "الجبهة اللبنانية" لا سيما الرئيس كميل شمعون وبيار الجميل، لكن القدر لم يمهله، ذلك ان القدر باغته في نهاية آب 1978.
ولعل المسعى الأخير للصدر يفسر إخفاء تلك الشخصية الفذّة، ذلك انه كان من غير المسموح أن ينجز الصدر أي مسعى داخلي يجنب لبنان الفتنة والتوطين. لقد تحول إلى خطر على أصحاب مشروع التقسيم بعد ان بات نقطة جذب للطائفة الشيعية، كما نقطة تقاطع مع توجهات كثيرين أرادوا إنهاء معاناة هذا الوطن. لكن، في الواقع، لم يكن المخطط الدولي والإسرائيلي للبنان قد استكمل في ذلك الحين.. وربما لا يزال حتى الآن.
كان قدر الصدر من قدر لبنان.
( السفير)