قد تطول الفترة الزمنية وتمتد لعشرات السنوات حتى يتم الكشف او يصبح بالإمكان الكشف عن الأسباب التي أدت إلى تغييب الإمام السيد موسى الصدر عن الساحة السياسية الداخلية اللبنانية والملابسات التي رافقت عملية الاختطاف، والمصالح التي تقاطعت بين مجموعة من القوى المحلية والإقليمية وشكلت حافزا قويا لدى زعماء وقادة هذه القوى للأقدام على هذه الجريمة التي تتجاوز الحدود الشخصية للأمام الصدر لتصل إلى حافة اغتيال الفكر والنهج والمشروع الوطني الذي آمن به وعمل بكل جدية وإخلاص وشفافية لترجمته على أرض الواقع متجاوزا الفضاء المذهبي والطائفي الضيق ليحلق في فناء إنسانية الإنسان وما تختزنه من سمو للذات والرفعة والمعاني السامية.
ومن الغباء الوقوع تحت تأثير كذبة كبيرة لا تقل بشاعتها عن بشاعة جريمة الاختطاف نفسها وهي حصر هذه الجريمة بالمجنون المقبور رئيس ليبيا الأسبق معمر القذافي والذي لم يكن سوى الأداة المنفذة والجلاد الذي نفذ حكم الإعدام الصادر عن محكمة شارك فيها رؤوساء وقادة وزعماء شرق اوسطيين سيكشف التاريخ يوما عن ماضيهم الاسود وقضت بهذا الحكم الإجرامي كمقدمة لحكم الإعدام على الوطن وتاليا على آمال الأمة وطموحات شبابها بالاستقلال والحرية والكرامة.
وجريمة اختطاف الإمام السيد موسى الصدر لا يمكن فصلها عما سبقها وما تلاها من أحداث تأتي كلها في سياق المؤامرة على الوطن باغتيال رجالاته الأوفياء لرسالاتهم الوطنية والذين تصدوا لمخاطر تقسيم البلد والحروب الأهلية المتنقلة وتفتيت المجتمع اللبناني وضرب البنى التحتية وتدمير ثقافته وطمس حضارته وتزوير تاريخه بإمكانيات متواضعة ووسائل سلمية ولكن بايمان راسخ، فقدموا التضحيات الجسام ودفعوا أرواحهم ثمنا للمبادىء النبيلة التي آمنوا بها وفداءا للوطن الذي صانوه بحياتهم فقضوا صرعى واستشهدوا على مذبح الوطنية.
ومع ذلك فالمؤامرة استمرت وما زالت وإن بأشكال شتى وأساليب متنوعة واخطرها تلك التي تستبيح الكيان وتجعل من الوطن سلعة للمساومة في سوق النخاسة الإقليمي والدولي وتمنع قيام الدولة بتعطيل مؤسساتها وزعزعة ركائزها واستقرارها وإثارة الغرائز المذهبية وشحن النفوس بالحقد والكراهية وتعميق الخلافات وتوسيع هوة النزاعات بين أبناء الوطن الواحد وأبناء الدين الواحد وأبناء المذهب الواحد.
وإذا كان من الصعوبة بمكان الإحاطة بكافة جوانب شخصيه الإمام الصدر والدخول إلى رحاب فكره ونهجه وأهدافه. إلا أن ذلك لا يمنع من الاستضاءة ببعض الومضات التي كانت تشع من خلال أقواله وممارساته ومواقفه التي تلقي الضوء على سيرته ونهجه.
ففور اندلاع فتيل الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان عام 1975 سارع الإمام الصدر إلى بذل المساعي والجهود لدى مختلف الافرقاء لخنق الفتنة في مهدها، ووجه نداء دعا فيه الأطراف اللبنانية إلى حفظ الوطن. وناشد القادة الفلسطينيين لحفظ قضيتهم.
ولما استمر القتال واستقالت الحكومة وظهرت صعوبات في وجه قيام حكومة جديدة. الأمر الذي هدد بخطر انقسام الوطن بادر الإمام الصدر إلى الإعلان عن اعتصامه الشهير يوم السابع والعشرين من شهر حزيران عام 1975 في مسجد الصفا في الكلية العاملية، ومما جاء في بيان الاعتصام /قررت اليوم أن اعتصم واصوم وزادي هو كتاب الله وقطرات ماء وسأظل هنا حتى الشهادة او حتى تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية وقد ودعت والدتي وزوجتي واطفالي وجئت أصلي إلى الله أن ينقذ هذا الوطن/.
وبعد أربعة ايام على الاعتصام وتحت الضغوط الشعبية والسياسية تم الإعلان عن تشكيل الحكومة ففك الإمام اعتصامه.
وعلى أثر الحوادث الدامية التي تعرضت لها البلدات المسيحية في البقاع أطلق السيد موسى الصدر كلمته الشهيرة /كل رصاصة تطلق على القاع او شليفا او دير الأحمر إنما تطلق على بيتي وقلبي وأولادي وعمامتي/.
على أن الجانب الأهم في فكر ومسيرة الإمام السيد موسى الصدر إيمانه الراسخ بلبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه وهو ما كان يكرره بإستمرار وفي كل مناسبة واعتباره الطائفية نقمة أما تعدد الطوائف فهو نعمة على لبنان. لذا كان يؤكد على العيش المشترك وإيجاد أفضل صيغة للتعايش بين المتنوعات الطائفية في البلد.
إشارة جديرة بالاهتمام والوقوف عندها مليا وهي أن الجريمة لا تكمن فقط في إخفاء جسد الإمام السيد موسى الصدر وإنما في طمس فكره وتغييب مشروعه الإصلاحي وضرب المشروع الوطني الذي حمله في عقله وقلبه والاكتفاء بالبكاء على أطلال تغييبه في الواحد والثلاثين من شهر اب من كل عام دون الإقدام على أي خطوة جدية للكشف عن مصيره وملابسات اختطافه لا على مستوى الوطن الذي دفع حياته ثمنا للدفاع عنه ولا على مستوى جناحي الطائفة الشيعية حزب الله وحركة أمل ولا على مستوى أطراف الممانعة التي تمتلك من وسائل الضغط والقوة ما يسمح لها الإدعاء بمحاربة الشيطان الأكبر أميركا والعدو الصهيوني، ما يوحي بالسكوت عن كشف هذه الجريمة الأمر الذي يثير الكثير من الشكوك حول ضلوع البعض منهم فيها، إذ أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.