ست ساعات وعشرون دقيقة، وقوفاً لا قعوداً، استغرقت عملية تقديم الطلب للحصول على جواز سفر بواسطة الخدمة السريعة في مركز الأمن العام مقابل العدلية. فكيف إذاً لو لم تكن "خدمة" يُمنّن بها المواطن، و"سريعة"؟ في الواقع كانت أشبه بعملية تعذيب لمن تجاسَر وطلب جواز سفر بحكم الضرورة دون أن تشفع له الواسطة.
فقبل الأول من آب بأيام، ظهر وزير الداخلية شامخ الرأس، مطَمئناً المسافر اللبناني إلى ولوجه في مطارات العالم من بابها الرقمي العريض بباسبور "بيومتري" يختزل بشريحة الكترونية سيرة صاحبه كما بصماته بالاصبع والعين دون عناء. وأكد معتزاً على جهوزية إدارة الأمن العام لتلبية طلبات المواطنبن ابتداءً من أول الجاري. فكان من حظي اختبار التجربة، مع غيري من المواطنين السعداء، في المركز المذكور والجاهز، على قول الوزير، والمجهّز على أكمل وجه.
صالة رحبة تستقبلك بأكثر من ثلاثمئة مقعد مريح، يسوّرها عدد وافر من الكونتوارات المجهّزة بالآلات الحديثة لتلبية طلبات المواطنين على وجه السرعة. حسبُكَ أن تأخذ رقماً وتجلس في انتظار دورك، وفي يدك رزمة الأوراق والصور المختومة من المختار، مرتاحاً الى انتظام العملية وسلاستها. فلا تمييز في المعاملة بين زيد وعمرو، وراحة المواطن وكرامته فوق كل اعتبار. فالصالة عصرية ومكيّفة تكييفاً ممتازاً، ومعدّة بكل ما يلزم من خدمات، حتى أنه في حال أصابك عطشٌ فثمة برادات مياه لإطفاء ظمإك. وأمّا إذا طرأ تأخير، على غير عادة، واضطُررت الى قضاء حاجة غير محسوبة، فلا داعٍ للقلق والمكان مجهّز، كما في الادارات اللبنانية كافةً، بعدد كافٍ وافٍ من المراحيض في غاية النظافة لراحة أصحاب الطلبات برغم أعدادهم الوفيرة.
وقد تنبّه المعنيون، وفي طليعتهم الوزير شخصياً، الى كل طارئ، إذ جَدْولوا اصدار الجوازات الجديدة على مراحل، تبعاً لانتهاء صلاحية القديمة منها، ونظراً إلى الضغط الاستثنائي خلال الصيف. فالأولوية للجوازات المنتهية صلاحيتها، ثم تلك التي تنتهي تِلواً، وهلُمَّ جرّاً. كما استُحدِثت مراكز في بعض المناطق وفي قنصليات في الخارج لتخفيف الضغط على مركز واحد في العاصمة.
ذلك أن العملية دُرست بتأنٍ ونُفّذت بجدارة كما عوّدتنا الإدارات اللبنانية. أو هكذا كنّا نتمنّى. إنما واقع الحال هو طبعاً على عكس ما وصفناه آنفاً بنسج من خيالنا الطموح. فلا المكان مؤهل للانتظار، وهو مُزرٍ بضيقه وأشبه بزريبة مفتوحة ومن دون تكييف في عزّ الصيف، مغطّاة بالصفيح، ويوجد فيها مقعد واحد رأفةً بعدد محدود من المواطنات والمواطنين المنهكين.
"من 45 الى 100، قِفوا في أول عنبر" يصرخ أحدهم، "وبعد المئة في ثاني عنبر"، ثم يؤنّبهم بصراخ مضاعف لعدم إصغائهم. وأما "العنابر" فهي عبارة عن مساحة ضيّقة مفصولة بحائطين لا تليق حتى بالدواب! ثم بعد حصولك على رقم، تنتظر ساعات طويلة وقوفاً في طابور لا يتحرّك، وأمامك "خط عسكري" مفتوح "على عينك يا تاجر" ليس للعسكر طبعاً، إنما لأصحاب الواسطة، يصطحبهم موظف بلباس مدني ذهاباً وإياباً. فيما الأم المرهقة تسأل حتّامَ تنتظر وقد تركت طفلها في البيت منذ الصباح الباكر، والشاب الغاضب يحتجّ تكراراً على طول الانتظار والتمييز في المعاملة (بين مواطن بسمنة ومواطن بزيت)، و"المؤهل" يجيب وقد ضاق صدره، "انشالله مُوت لإرتاح منكم!".
ثم بعد ساعات من انتظار مضنٍ، يأتي دورك فتدخل "الصرح"، أي تنتقل إلى الطابق العلوي فتحاول عبثاً دخول غرفة صغيرة تتّسع بالكاد لأربعة أو خمسة مكاتب بأجهزتها وموظفيها وحيث تكادَس أربعون شخصاً أو أكثر. فيتعيّن عليك سحب رقم جديد، (نعم للانتظام!) في انتظار الفرج واتمام الطلب ودفع الفاتورة الدسمة والحصول على توقيع سِيدنا النقيب، وقد قضيت ما يزيد على ساعات ست مستأنساً بهذا الجمهور "المقاوم" والإدارة الفاعلة في يوم صيف حار، لكي أعود في اليوم التالي واستلم جواز العصر، على وجه السرعة بدون شك!
فهل هذا كل ما قدّرك الله على تقديمه من أداء حسن، أيها الوزير، وزير الداخلية والبلديات؟ فلا المكان مؤهّل لاستقبال البشر، ولا الطاقم الأمني مجهّز لعملية إدارية ومدنية لهذا العدد من الناس، ولا آلية العمل قد دُبّرت بحد أدنى من الحسّ السليم، اللّهُم إلا إن تطلّبت عبقرية لوجستية خارقة وأنت لا تدري. فإن كنتَ قد فشلت في التحضير لعملية ابتدائية من هذا النوع، فكيف لي كمواطن أن أأتمنك بما هو أخطر، لا سيّما في سياسة أمنية في زمنٍ معقّدٍ تحميني فيه من الأصوليات الارهابية؟
فهل تدفع من كيسك كلفة وقتي الضائع؟ أوتدفع عطلاً وضرراً عن إرهاقي الجسدي والأذى المعنوي الذي لحق بكل واحد وقف في الطوابير خلال ساعات وشاهد ما شاهدتُه من أداء معيب وتمييز بين مواطن وآخر؟ فما بالك تعترض على "حزب الله" وهو المطالب الدائم بامتياز يميّزه عن باقي المواطنين، تماماً كما تفعل أنت؟ فلا هو يؤمن بمبدأ المساواة تحت القانون، ولا أنت! وإلاّ فلمَ تُميّز بين مواطن تُنهي معاملته في غضون ست دقائق وآخر في ست ساعات؟
لن أسألك هنا، أيها الوزير، على من رست "مناقصة" الجوازات الالكترونية وكيف، أو كيف حُفظت خصوصية داتا المواطنين. إذ لا أخالُها مختلفة عن سابقاتها من "مناقصات" سواء أكانت في تلزيم نفايات الكوستا برافا أو إعادة تلزيم المواقف القذرة في المطار (وهي على صورة القيّمين عليها)، أو فضيحة "فاطمة غول" أو غيرها. إنما أسألك هل أنت مستعد، ولو لمرّة، لتحمّل مسؤوليتك كما يفعل الوزراء في البلاد المتحضّرة، فعندما يفشلون يعتذرون فيستقيلون.
فلا مناكفاتكم الحزبية تهمّني، ولا أتوقع منك ومن غيرك من الوزراء حلّ أزمات الشرق الأوسط أو بحر الصين. إنّما بقدر ما أعيب عليكم ولاءاتكم الخارجية، أتوقع منكم، في الحد الأدنى، تخفيف تبجّحكم ووعودكم الفضفاضة (وقد حُلّت أزمة السير بقانون جديد ما بعده قانون!) والعمل على حلّ ما أمكن من أزمات المواطن اليومية بدلاً من إذلاله، لريثما يأتينا وزراء مسؤولون يحترمون كرامات الناس ويعملون بجدّ للتكفير عن ذنوبكم.
النهار