تعود ذكرى تغييب السيد موسى الصّدر في كلّ سنة بتاريخ 31 آب، لتسعيد وهجَ رجلٍ أعاد إلى محرومي هذه الأرض بعضًا من حقّهم المسلوب. لكن كان قدره أن يبقى سرًّا مدفونًا فيها، وهي لا تزال تحلم بأن تستعيده يومًا سيّدًا مقاوِمًا موحِّدًا. هذه الأرض التي احتوت سرَّه، لم تخن وصيّته يومًا، وها هي تفخر بأنّ لها حماةً من ذهبٍ، حفظوا العهد فقاومو إسرائيل (الشرّ المطلق) كما نعتها يومًا، وها هم اليوم يقاومون وجهها الأسود الجديد.
كتاب "الامام السيّد موسى الصّدر" للأستاذ حسين شرف الدّين، يروي أهم محطّات السّيد من إيران إلى النجف الأشرف فمدينة صور، استند فيه إلى مقالات وخطب ودروس للسيد، إضافة إلى بعض ما استقرّ في الذهن، أو دوِّنَ من شهادات عن السّيد الصّدر، في فترة وجوده في قم والنجف وتفجيرِ ما اختُزِنَ منهما في لبنان.
المرحلة الإيرانيّة
تروي شقيقات السّيد الصدر عن بداياته في قم المقدّسة كيف كان ملمًّا بكل تفاصيلهن وكيف كان (آقا موسى) كما ينادونه مهتمًّا بقضاياهنّ، راعيًا لأولادهنّ. كما كان معروف عنه "الحاضن لعذابات الأطفال" بحيث كان يداويهم من الرّمد وأمراض أخرى تنتشر صيفًا في قرية نائية كانت مصيفًا لأبيه الذي كان له سَبْحٌ طويل في الخدمة المجتمعيّة في قم حينها.
ينقل الكتاب مقابلات حصريّة مع من عايشوا السّيد الصّدر، ومنهم الدّكتور صادق الطباطبائي ابن أخت السيد موسى (نائب رئيس مجلس وزراء أوّل حكومة للثورة الإسلاميّة في إيران)، والذي روى كيف كان للسيد موسى دور في إقناع والده بسفره إلى أوروبا لإكمال دراسته، وما ترك كلام السيد في نفسه من أثر عميق، وشعورٍ بالمسؤوليّة قبل سفره قائلًا له "وإذا نسيت قيمك ودينك ووطنك، فليست الخيانة لنفسك فقط، بل لكل هذا بالإضافة الى خيانة لتاريخٍ بأكمله".
كما لفت الدكتور طباطبائي إلى طبيعة العلاقة بين السيد موسى والإمام الخميني، وتشابه استراتيجيا العمل الإسلامي التي طبّقاها في لبنان وإيران. وتدليلًا على عمقها يروي الدكتور طباطبائي، أنه عندما وصل إلى فرنسا وبعد وقت قصير من وصول الإمام الخميني إليها، استفسر منه عن سبب اختيار فرنسا بعد إخراجه من العراق فقال: " لو خالك في لبنان، لما تشرّدت هكذا ولما أتيت الى هنا". وفي هذا السّياق نذكر بعض ما كتب سماحة الإمام السيد موسى الصدر عن الثورة الإسلامية في إيران قبيل أسبوع من اختطافه(1) "والحق أقول: إنّ هذه الحركة وازعها الإيمان، وأهدافها هي أهداف إنسانية مفتوحة وأخلاقية ثورية، وهذه الموجة التي تهبّ اليوم على إيران تذكّرنا بنداء الأنبياء، وهي حركة حدّد زعيم المعارضة الإمام الأكبر الخميني أهدافها بوضوح.
الانتقال الى النجف الأشرف
النجف بالنسبة إلى كل من يطمح إلى المحجّة للفقه الديني هي الملتمس والمرتقى. والهجرة العلميّة إليه للفضلاء المتخرجين من حوزات قم كانت شائعة حينها، والفوج الذي ضمّ الإمام الصدر ورفاقه، كان ظاهرة ما عهدتها النّجف طوال السّنين، حسب ما نقل آية الله السيّد سلطاني. كان السّيد يحضر الدّروس العالية للأساتذة والعلماء والمراجع في النّجف، ومنها درس المرحوم آية الله العظمى الحكيم ودرس الإمام الخوئي. وقد قال السّيد الحكيم فيه "من خلال هذه الحركة العامة لسماحته في النّجف، كنت أراه واحدًا من الأعلام الذين لهم دور خاص بين الطّلبة الأفاضل المحصّلين". وعن عدم بقاء الإمام الصّدر في النّجف بروي ابن عمه الدّكتور كاظم، أنّ السّيد الصّدر ليست غايته المرجعيّة، أو بالأحرى شرطه للمرجعيّة التي يريدها، غير الشّروط التي تقوم عليها المرجعيةّ التي يعرفها.
لبنان عود على بدء
حاز لبنان اهتمام المرجعية في النّجف، لما له من مركزيّة وموقعيّة باعتباره الدّولة العربيّة الوحيدة التي تعترف بالمذهب الشيعي اعترافاً رسميًّا، من هنا كان ترشيح الإمام الصّدر للقيام بحركة إصلاحيّة واسعة يكون لها تأثيرات أيضًا على مستوى العالم الإسلامي. ومن هنا نخلص إلى أنّ حركته الفريدة هذه، كانت السبب وراء ما جرى من اختطاف، باعتبار أن أعداء الإسلام عرفوا المداليل الحقيقيّة لهذه الحركة الضّخمة اتيي قام بها الإمام الصّدر. عاد الإمام إلى مدينة صور ولاقى احتضان السّادة آل شرف الدّين، وبدأت مرحلة حلمٍ بنهضة احتضنت خليتها الأولى في قم وكسيت لحمًا في النّجف وأنتجت في عاملة.
قالها يومًا سماحته: "لن نهدأ حتى لا يبقى محروم في لبنان"، فكانت أولى اهتمامات العودة، القضاء على التّشرد والفقر الذي لو كان رجلًا لقتله، وأوجد مؤسّسة كبرى تضم دارًا للأيتام، ودارًا للعجزة، ومدرسة مهنيّة. وبعدها تفرّغ لإنشاء مجلس يرعى شؤون الطّائفة.
ومع بداية العام 1975، دعا سماحته إلى تشكيل مقاومة لبنانيّة ضدّ اسرائيل "أعداؤنا، أعداء أرضنا ومائنا ومجدنا، أعداؤنا في تاريخنا وكلّ ما نملك". كانت ثورته كما عبّر عنها ثورة ضدّ العنف والظّلم والحرمان، والتّمييز الطائفي والتّمزق الوطني. وقد لعب دورًا وحدويًّا في ذلك الوقت في وطنٍ مثخن بآهات وويلات أبنائه. ويبقى الكلام في ذلك للبطريرك خريش عن الإمام السيد موسى الصدر: "دخلتَ الى الكنائس فجعلتها مساجد، والمساجد جعلتها كنائس".
وبعد أن تعاظمت الأخطار في الجنوب إبّان الاجتياح الإسرائيلي، وأصبحت تنذر بأوخم العواقب على لبنان والمنطقة العربيّة، بدأ الإمام بجولة عربيّة كان آخرها إلى ليبيا في 25 آب 1978. أشرقت شمس 31 آب وغاب سيّدها. وعاد أهل الجنوب محرومين من عمامةٍ ظلّلتهم يوم تآمر عليهم حرّاس الضوء وصيّادوه. وعن الأمل والقضيّة لا يسعنا القول أكثر مما قيل "لن تموت أمّة زرع فيها الصّدر أملا ".
ربى حرقوس
المصدر : موقع نور الجديد