الضاحية الدمشقية الجنوبية الغربية، أو مدينة داريا، هي القصة التي يمكن أن تشكل نموذجا للمدى الذي يمكن أن يصل إليه نظام بشار الأسد وحلفاؤه في التدمير والقتل. هذه المدينة التي تشكل إحدى أكبر ضواحي العاصمة السورية ضمت في الأحوال الطبيعية نحو ربع مليون نسمة، وهي على تماس مع مطار المزة العسكري، ودخلت منذ العام 2012، كما العديد من المناطق السورية، في عداد المدن والبلدات الثائرة على نظام الأسد والساعية إلى تغيير النظام.
خلال أكثر من 4 سنوات وداريا تتعرض لهجوم عسكري دمر معظم منشآتها المدنية. حتى المستشفى الوحيد جرى تدميره بالكامل. وتعرضت لحصار طال كل شيء، ما اضطر، منذ سنوات، ما تبقى من السكان، إلى سدّ رمقهم بالحشائش والأعشاب. وبقيت داريا صامدة وفاجأت جيش النظام بقدرة الثوار على خرق الحصار وتهديد مطار المزة العسكري، وصولا إلى تهديد الطريق الدولي الذي يربط بين دمشق وبيروت. وبقيت عصية على الاستسلام والرضوخ، رغم أكثر من عشرة آلاف قتلهم النظام بالبراميل المتفجرة وبالقذائف المدفعية وغارات الطيران التي شاركت روسيا أخيرا فيها بطائراتها، لضرب أي معلم للحياة في المدينة.
الأسد استكمل عملية التدمير والقتل من دون توقف مستعينا بالحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله بالإضافة إلى روسيا، لكن الأهم كان إدراك الأسد أن سقوط دمشق خط أحمر دولي وإسرائيلي، وبالتالي استخدم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتدمير داريا، وجرى إحكام الحصار عليها إلى الحدّ الذي لم يعد من ذخيرة لدى المقاتلين في داريا، فوافقوا أخيرا على الخروج بسلاحهم إلى خارج منطقة “سوريا المفيدة”، وإلى محافظة إدلب تحديدا. وهذا ما جرى خلال ثلاثة أيام بإشراف الهلال الأحمر السوري.
الخذلان لداريا هو ما نقله بعض الذين خرجوا من المدينة التي أُفرغت بالكامل يوم الأحد. الخذلان بسبب عدم تحرك فصائل المعارضة على جبهة الجنوب لنصرة داريا أو فتح الجبهة لتخفيف ضغط الحصار، أو محاولة مدها بالحد الأدنى من الذخيرة والمؤن. على أن ما يثير الانتباه هو أن داريا لم يجد داعش فيها موطئ قدم ولا استطاعت جبهة النصرة أو فتح الشام أن تكون ضمن فصائلها المقاتلة. أبناء داريا الذين دافعوا عنها ببسالة استثنائية، هم النموذج الذي لم يدخل في أجندات إقليمية ولا استهوته التنظيمات الدينية المتطرفة، رغم أن الهوية الإسلامية تبقى الهوية الطبيعية لأبناء داريا التي توجد فيها أقلية مسيحية من الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.
هنا تكمن أهمية داريا. وبالتالي فإن دلالة سقوطها في يد النظام بعد تدميرها شكلت من الناحية العسكرية نموذجا للفصائل الوطنية السورية. فقد أدرك النظام أن خطورة داريا تكمن في النموذج الذي تقدمه، إذ أن الأسد والحرس الثوري الإيراني، كان هدفهما ضرب أي نماذج للمعارضة يمكن أن تشكل بديلا مقبولا دوليا للنظام. لذا شجعا على تقوية التطرف وقاتلا بشراسة أي مظهر لمعارضة معتدلة. وهذا بات واضحا في سيرة الثورة السورية ولا يحتاج إلى أدلة لكثرتها.
داريا اليوم… والخطوة التالية الغوطة الشرقية وما تبقى من مناطق نفوذ للمعارضة السورية تمهيدا لإمساك الأسد وحلفائه بالعاصمة وريفها بالكامل. داريا كانت تمثل استكمالا لما قام به حزب الله في القصير ومناطق القلمون السوري المحاذي للبنان. فمنذ العام 2013 جرت أكبر عملية تهجير لأبناء القلمون من خلال تدمير شبه كامل للمدن والبلدات والقرى السورية. هذا التفريغ استكمل بتهجير أكثر من مليون سوري من حمص، بالطبع ممن ينتمون إلى الأكثرية السنية. هي إذن خطوات تطهير مذهبي ضمن خارطة سوريا المفيدة. إذ يجب الانتباه إلى الكتل السكانية الكبرى في ريف دمشق، من مخيم اليرموك إلى داريا وبرزة والغوطة وغيرها من ضواحي دمشق، تلك التي تعرضت لعملية تدمير هائل وعمليات قتل غير مسبوقة في التاريخ السوري، والهدف التغيير الديمغرافي تثبيتا لدعائم نظام الأسد الذي بات طموحه أن تستقر له السلطة في “سوريا المفيدة”، أي تأمين جزء من سوريا تشكل فيه الأقليات الدينية مع النفوذ الإيراني وحزب الله وزنا ديمغرافيا وسياسيا يؤمن شروط الحكم.
ليس خافيا أن السيطرة من قبل النظام على داريا ترافقت مع دخول تركي إلى جرابلس بغطاء روسي وأميركي وإيراني، بغاية تحجيم الدور الكردي وتوفير الحسابات الأمنية التركية الداخلية، من خلال القضاء على آخر جيوب تنظيم داعش هناك. وفيما كان الجيش السوري الحر يدخل جرابلس بدعم تركي في الميدان، كان النظام السوري يدخل داريا باتفاق لا يخل بمعجزة صمود داريا كل هذه السنوات، ولكن في ظل صمت إقليمي وعربي ودولي رافق كل الارتكابات التي طالت داريا بشكل لا يوصف.
جامعة الدول العربية حذرت قبل أيام من جريمة التغيير الديمغرافي في سوريا. الصمت العربي هو الثغرة التي نفذ منها النظام للمزيد من عملية التطهير الديمغرافي، لا سيما أن تركيا كما روسيا وإيران فضلا عن واشنطن وإسرائيل، تعيد ترسيم سوريا بما يتناسب مع نظام المصالح المرتبط بكل دولة من خلال تقاسم النفوذ، بينما العرب وحدهم أصحاب المصلحة بإعادة بناء سوريا على قاعدة مصالح السوريين. وهو ما يبدو غير مقبول بالمعايير العربية.
إيران تطمح إلى المحافظة على نفوذها بالمزيد من تهميش الدور العربي، وتركيا تولي حساباتها الوطنية الأولوية التي فرضت عليها الاقتراب من إيران وموسكو ولم تقطع مع إسرائيل وواشنطن، فيما باتت إيران تعتبر أن الحصان التركي هو من يجب الرهان عليه بعدما ضمنت مستوى متقدما في العلاقة مع روسيا وواشنطن، وهي السياسة التي تريد من خلالها المزيد من تهميش الدور العربي في سوريا.
يبقى أن الثورة السورية، بما هي سعي لتغيير نظام الاستبداد والانتقال إلى نظام ديمقراطي، هي القضية الحية، وهي المدخل لإعادة ترميم الدور العربي في سوريا. خيار العرب في سوريا هو السوريون وثورتهم، وسوى ذلك سيكونون خارج التأثير ليس في سوريا فحسب بل في المنطقة العربية عموما.
علي الأمين، العرب