مُنذ الأزل، كان صراعٌ بين الخير والشرّ، بين الأبيض والأسود، بين النور والظلمة... وكان الانسان مختلفًا عن الجماد وسائر المخلوقات، مميزًا بالعقل والادراك وحُرًّا بإرادته ضمن حدود الوجود والزمان والمكان...
عِلّة الانسان أنه يفاوض دائمًا الخالق، فاذا صلّى فلأجل غاية، وإذا صام أو فعل الخير فَلكَي ينال جزاءً... فهو يريد الربح في الدنيا والاطمئنان الى الآخرة. وهكذا وجد الشرّ "كُوَّة" للولوج الى قلب الانسان وعقله وسط أمواج الحياة وتجربة الاختيار بين ما تقدّمه الحياة من مغريات. حتى بطرس، في ظلمة الّليل على سفينة الحياة، شَكّ وقال للمعلّم: "مُرني أن آتي اليك".
منذ زمن، انتشرت جماعة ما زالت تعيش في الظلمة، تجتمع، تنمو على هامش الحياة ، على أفكار سوداء مقيتة، موروثة، لا تريد إلا المادّة والعيش بعيدًا عن النور. وفي الآونة الأخيرة عمّت مظاهرات، صيحات، واستنكارات العالم، وأخيرا في الولايات المتحدة، نتيجة خطّط وضعها أتباع الشيطان لأقامة قداس أسود ثانٍ في "قاعة الموسيقى" في مدينة أوكلاهوما بتاريخ 15 أب 2016 تكلّل بالفشل نتيجة صلوات المؤمنين المكثّفة والوقفات الإحتجاجية بالقرب من مكان حدوث هذا الطقس غير الأخلاقي والمهين للسيدة العذراء في عيدها.
وبالرغم من الضجة الإعلامية النوعية لهذا الحدث، إلّا أننا وجدنا صمتاً محلياً مفاجئاً تجاهه، ولم نقرأ أي موقف رسمي يوضح معاني هذه الأعمال ومخاطرها، ولا حتى توعية ما، ربما لأن الأحداث حصلت خارج لبنان، إلا أنّ هذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي دون أن نتأثّر ونثور وندين هذه الأفعال الشيطانيّة، فالوقاية من امتدادها خير من ألف علاج.
الغباء في الطقوس المتنوعة
يعتبر القداس الأسود من أهم الطقوس التي يمارسها عبدة إبليس، والدّال على خدمة الظلمة. والهدف منه تقديم العبادة للشيطان بالطريقة التي يرتضيها ويفرضها على أتباعه من خلال طقوس ملأى بالعنف والإباحة والشذوذ الجنسي، يقدمون فيه البخور المتصاعد من النباتات السامة المحروقة، ويوقدون الشموع السوداء التي لها رائحة القار، وغالبا ما يجتمعون في أماكن مظلمة كريهة الرائحة مثل الأدوار التي تحت مستوى الأرض، أحيانا يقدمون هذه العبادة الشيطانية في كنائس قديمة مهجورة، أو في شقق فاخرة، ويحاول الشيطان أن يحاكى الله وكنيسته لذلك يوجد في مكان العبادة الشيطانية مذبح، وكأس، ومجامر، وشموع وكل الاحتياجات الموجودة في الكنيسة. إضافة إلى ممارسات عدّة تُقام كالطقوس الرافضة للأديان والموسيقى الصاخبة العنيفة المعروفة بـ "Black Metal"، تحضير الأرواح وممارسات دموية وجنسية مفرطة، وطقوس كفر مريعة ومهينة بعنوان استنزاف مريم، بحيث يوضع تمثال لمريم العذراء في داخل قلب خنزير ويغطوه بالكبريت ورماد ودم نجس، ثم يدعون الجميع للهتاف بتعويذات كفريّة. وكل هذه الطقوس ما هي الا دليل على غباء هؤلاء العبدة وعلى قلّة الإيمان والأخلاق المتّسمة في أنفسهم.
الشرّ فكرة أو هو بحدّ ذاته شيطان؟
وفي هذا الاطار، يُشير رئيس مجلس إدارة مركز الكرَيم الأب فادي تابت للـ "الدّيار" أن المشكلة في مجتمعنا اليوم هي ترغيب الناس بالمشاركة في القداس مخافة من الشيطان لا محبة بالله، كما أن الشر يملك وجهين: الوجه الوجودي والشخصي، من خلال الإنجيل الذي يبيّن لنا طرد يسوع لإبليس والشيطان، والوجه الفكري أي أن الشر هو فكرة سوداء غايتها إبعاد الناس عن الله، كالذي حصل مع آدم وحواء أو الذي حصل مع يهوذا الإسخريوطي. أمّا عن كلمة "الخطيئة" فتملك خمسة حروف: "الخاء" الذي يرمز إلى خبرة الإنسان، "الطاء" إلى طاعة الله التي يبتعد عنها الفرد، حرف "الياء" الذي يُولد اليباس، حرف "الألف" الأنانية والتاء "التكبّر".
ثمّ تطرّق الأب فادي تابت قليلاً إلى قرار هدم كنيسة القديسة "ريتا" في فرنسا لافتًا أن هذا العمل شيطاني، ذاكرًا قول البابا يوحنا بولس الثاني الذي اعتبر أن فرنسا بحاجة إلى الأنجلة، مضيفًا أن الماسونية والإلحاد والبدع المختلفة دخلت هذا البلد، وكل عمل شر له محاسبة "فكل إنسان سيحاسب بحسب أعماله". وعن الأحداث التي حصلت في مدينة أوكلاهوما الأسبوع الماضي، أكّد الأب تابت في حديثه، أن السبب الأساسي يعود لِتراكمات أفكار إكتسبها الفرد منذ الصِغر مُتأثرًا ببيئته المنزلية والمدرسية... فمرحلة المراهقة تمثّل الرفض لبعض الشباب، بالتالي يبتعد الفرد عن الله وينتظر من يلتجئ إليه، فتكون تلك البدع ملجأً له، مِمّا يجعله يتعاطى المخدرات، ممارسا أسوأ العادات التي تغيظ الله".
لا يمكننا أن ننسى الدور الأساسي الذي تؤديه وسائل الإعلام في التحريض على العنف والقتل والفساد، جرّاء المسلسلات والأفلام والاعلانات التي يَبثّها، وبالتالي ينتج منها اختيار القرارات غير الصائبة التي تبعده عن الرب، والانجراف نحو مخاطر عديدة.
أما محليا، فكشف الأب تابت ممارسات أخرى مقنعة بلباس الحرية لكنها محاكة من قماش الرذيلة والجحود نفسه، على سبيل المثال العبادة الشيطانية والمثلية الجنسية وغيرها...عكس الدول الغربية التي شرعّت الزواج المثلي... المشكلة عندنا أننا نتأثّر بالغرب ونغرق في العادات السلبية، رغم أن ميّزات الغرب عديدة. ومن يعتقد أن عبدة الشيطان يكثرون في الغرب مخطىء، فهم منتشرون في لبنان وبكثرة. من هنا تقع المسؤولية على الاعلام الذي ينقل الصورة السلبية، فخلال شهر رمضان المبارك لم تستعرض الاّ مشاهد القتل والحروب والعنف الاسري، التي تساهم في إبعاد الناس عن الأخلاقيات، وفي الأعياد والمناسبات المسيحية نجد عبارة Merry Xmas تلغي وجود المسيح والله، اضافة الى إبراز المنجمين على شاشة التلفزيون بهدف زيادة نسبة المشاهدة.
الوقاية بالإيمان والعمل...
لا شك في أن التربية في البيوت الشرقية مختلفة عن الغربية، الا أن الوقاية من هذه البدع لا بد من وجودها. فالتأثير موجود بالطبع في عقول الناس خصوصًا من ناحية حرية المعتقد، ويتجلى ذلك بداية عَبر المشاهد المسيئة التي تشتت فكر الانسان عن الواقع الأخلاقي الايجابي والأغاني الصاخبة، التي تتطوّر نحو عبادة خاطئة وفاسدة مستقبلاً. فللكنيسة دور في نشر التوعية كما أكّد الأب تابت، ويكمن ذلك أثناء العظات والرياضات الروحية والتعليم الديني في المدارس، فهي لا تملك دور المحارب، والمسؤولية الكبرى تقع على الدولة التي تهمل في بعض الأحيان هذا الموضوع بدل أن تُحاربهم قبل القضاء على كيانها. فهذه البدع هدفها هدم الكنيسة ومحاربتها في العالم قاطبة.
والملفت أيضًا موقف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في إحدى عظاته، فكان المبادر الأول في التوعية وذلك من خلال التنبيه للكهنة الذين لا يعترفون بوجود الشيطان، وإن عدم اعترافهم به هو مخالف للتعليم المسيحي، حيث قال "كل إنسان ما بدو يمشي إدمي بصدق الشيطان والمتشيطنين"، هذا الكلام يعزز من فرص التوعية داخل الكنيسة والطوائف المختلفة في لبنان.
فالشيطان يوقع الإنسان المؤمن، ويجربه في كل شهوات الدنيا ليبعده عن يسوع المسيح، ويضيف أن المال يؤدي إلى الشهرة، والشهرة تساهم في الوصول إلى السلطة، والسلطة تبعدنا عن الله، وبالتالي يصبح الإنسان عبدًا لشهواته. وختم الأب تابت داعيًا الى الصلاة والتوبة، وتكريس نفسنا لمريم العذراء التي تعتبر العدو الأول للشيطان. فالرب يقول: "من ليس معي فهو عليّ"، ومهما حارب الشيطان الكنيسة "فأبواب الجحيم لن تقوى عليها".
حرية التعبير تحمي الأخلاقيات
المشكلة في هذا القرن أن كلمة "الحرية" تفهم بطريقة خاطئة، فالإنسان مخيّر وليس مسيّراً، ويعتبر البعض أن الإنسان هو حرٌ في ممارسة الطقوس التي يريدها، إلّا أن مفهوم الحرية يمنع التعرّض للأديان الأخرى والمس بهم، بدوره يٌعتبر القداس الأسود وما شابه من وسائل القدح والذم، التي تحارب الأديان السماوية. بالرغم من سلبيات الاعلام التي تمّ ذكرها سابقًا، لا يمكننا أن ننكر دورها الايجابي في مكافحة تلك الممارسات عبر الصلاة المُكثّفة التي طالبت بها من أجل ايقاف هذه المهزلة.
أخيرًا، لا يمكننا أن نستسلم في وجه هذه الكارثة المنتشرة عالميًا، إذ تردّدنا في نشر أعمال هذه الطقوس الجهنميّة، لِما فيها من بشاعة وتدنيس وإهانة لأمنا السماويّة على أمل توعية الناس على مخاطرها التّي تهدّد مستقبلنا.
(الديار)