أمس، زار الرئيس سعد الحريري رجب طيب أردوغان، من الطبيعي ان يكون قد أثنى على دخول الدبابات التركية الى مدينة جرابلس وتطهيرها من تنظيم «داعش»، ولا أحد يتصور ان رئيس تيار المستقبل قد تمنى على مضيفه التركي ان تواصل الدبابات سيرها الى حلب وصولاً، بطبيعة الحال، الى دمشق...
لا بد أن يكون الحريري الابن ضنيناً، مثل الحريري الأب، بدمشق التي هي جوهرة العرب، وان كان هناك بين الانصار من دعا اردوغان حين كان يشير الى الأسد باصبعه «ارحل» بأن يدخل الى دمشق غازياً او فاتحاً لكأنها القسطنطينية وتسقط بين يدي السلطان محمد الثاني.
غير ان ما تنقله «الديار» عن مصدر موثوق هو ان زعيماً سياسياً بارزاً أبدى تخوفه من ان ينصح اردوغان الحريري بالانفتاح على دمشق، ببساطة لأن الأسد باق، ولأن الطريق الى السرايا لا بد أن يمر بالعاصمة السورية، فالمرحلة دقيقة جداً وتقتضي الكثير من الواقعية السياسية.
ولعل اردوغان طرح نفسه مثالاً، لقد اعتذر من فلاديمير بوتين وزاره في سان بطرسبرغ، وما تعنيه المدينة بالنسبة الى الامبراطورية الروسية المقدسة، كما ان الزيارات المكوكية بين انقرة وطهران بلغت الذروة، ليسلم الرئيس التركي في نهاية المطاف ببقاء الأسد ما دام البديل تقسيم سوريا، وقيام كيان كردي على الحدود مع تركيا، وتنصيب والٍ للخليفة (ابو بكر البغدادي) على دمشق.
ما يتردد ديبلوماسياً يثير الكثير من الانتباه فاذ جرى الحديث عن مسعى روسي للوصول الى تفاهم ما بين الرياض ودمشق، على ان يمر ذلك عبر اليمن، يسأل بعض الديبلوماسيين ما اذا كان الحريري قد زار أنقرة لتهنئة الرئيس التركي باحباطه المحاولة الانقلابية، وتالياً «تحرير جرابلس»، أم ان هذا الأخير دعاه من اجل مسائل تتصل بحل الأزمة اللبنانية، وان  كان من الطبيعي، أو من الضروري، ان يكون حديث اردوغان مع المسؤولين السعوديين لا مع رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق.
ومع ان العلاقة بين السعودية وتركيا يشوبها بعض الغموض في الوقت الحاضر بسبب ما اعتبر تخاذلاً من قبل اردوغان في التعاطي مع المشكلة السورية، فان هناك حديثاً عن قيام مسؤول سعودي كبير بزيارة أنقرة في وقت قريب.
هذا وان بدا ان تركيا العاتبة على واشنطن قد زارها نائب الرئيس جون بايدن بعدما كان مقرراً ان يزورها وزير الخارجية جون كيري، فان بعض ما يكتبه مقربون من حزب العدالة والتنمية يشير بأن ثمة عتباً على السعودية التي لم تبعث بأي أركانها للوقوف الى جانب اردوغان في تجربته الصعبة.
مراجع سياسية وتمنت ان يعود الحريري مباشرة من انقرة الى بيروت، لا الى جدة ولا الى باريس، ولا الى سردينيا لأن البلاد دخلت في أزمة كبيرة، أزمة بنيوية، اذ مهما قيل في الميثاقية (والجدل البيزنطي الدائر حولها) فان المشكلة في ان المسيحيين الذين تناقضوا ديموغرافياً لا يمكن ان يتحملوا التقليل من شأنهم سياسياً.
وربما على الحريري ان يسمع ما تقوله الان مرجعيات سياسية وروحية مسيحية من ان اختيار رئيس الجمهورية الماروني بات منوطاً بما تتوفه به شفتا سعد الحريري.
هذه المرجعيات التي تتحدث عن «وصاية السلامية على المسيحيين»، تشير الى ان الوضع الراهن لم يعد يحتمل. واذا كان هناك خلل في وثيقة الطائف او في تفسيرها يفترض تصحيح هذا الخلل، فالاتفاق لم يقل بوصاية أحد على أحد وانما كرس التوازن المطلق من خلال المناصفة في المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء وفي وظائف الفئة الاولى، بالاضافة الى بقاء شخصية مارونية على رأس الجمهورية.
والاهم من ذلك التوازن في القرار، وهو الأمر غير الحاصل، ومنذ اتفاق الطائف حتى الآن وصولاً الى عام 2005 وانسحاب الجيش السوري، وبدء مرحلة سياسية جديدة في البلاد، اذ ان زعيم 14 آذار اصبح سعد الحريري، والى جانبه وليد جنبلاط بالدرجة الاولى، وزعيم 8 اذار هو نبيه بري في ظل الثنائية المعروفة مع «حزب الله».
تلك المراجع لا تنفي ان نقطة الضعف في الموقف المسيحي هي التشتت السياسي، والصراع على رئاسة الجمهورية بل وعلى كل شيء، وهي تعتبر ان نقطة الضعف في «المسار الثوري» لميشال عون هي هوسه بالكرسي الرئاسي مع انه لم يعد أكثر من كرسي خشبي، واحياناً كرسي كهربائي، كما ان نقطة الضعف الأخرى هي ان قرار المقاطعة جاء على خلفية التمديد للعماد جان قهوجي.
هذا في حين ان القوى والشخصيات المسيحية الأخرى كلها تدعم التمديد لقهوجي لأسباب مختلفة، ومنها فعالية في قيادة المؤسسة العسكرية في ظروف بالغة التعقيد، حتى ان الولايات المتحدة تتحدث عن الشراكة مع الجيش اللبناني، ومثل هذا الامر يقتضي، بالحد الأدنى، عدم زج اسم قائد الجيش في السجال أو في التجاذب السياسي.
ولطالما قيل ان عون الذي كان اميركياً بالكامل ذات يوم، وشهادته معروفة أمام احدى لجان الكونغرس بالنسبة الى «قانون محاسبة سوريا واستعادة لبنان سيادته»، بات اليوم يقاتل أميركا و«الخيارات الاميركية».
هذا لا ينفي ان لدى عون نقاط قوة ايضاً، وتبعاً لما يقوله وزير مسيحي من الذين شاركوا في جلسة مجلس الوزراء امس، فـ«اننا لا نستطيع ان نبرر كيف اننا نعيّن رئيس اركان جديداً ولا نعين قائدا للجيش جديداً».
اما نقطة القوة الأخرى فهي ان غالبية المسيحيين تقف الى جانبه بالنسبة الى «القرار المسيحي»، وبعيداً عن مسألة التمديد لقهوجي، وهو التمديد الذي يؤىده حزب «القوات اللبنانية» كما حزب الكتائب وفئات مسيحية أخرى.
وفي الكواليس ثمة من يقود حملة منظمة للتشكيك برئيس تكتل التغيير والاصلاح، والحديث مباشرة حول ان جهة مسيحية ما تدفعه الى الانزلاق نحو الهاوية، كما ان هذه الجهة توظف غضب عون باتجاه تلك النقطة التي تتقاطع فيما الفديرالية في لبنان مع الفديرالية التي يحكى عنها في سوريا، وصولاً الى العراق وحتى الى اليمن.
وهناك جهات تبدي تخوفها من ان يفضي التسخين السياسي الى التسخين الامني في ظل قناعة البعض بان اي ازمة في لبنان لا تحل، عادة الا عبر الخنادق.

ـ ماذا يريد عون؟ ـ

لا احد يعرف الآن كيفية الخروج من الازمة الراهنة. حتى في اوساط 8 آذار سؤال من قبيل هل يعرف عون ماذا يريد؟
للتو يأتي الجواب «يريد رئاسة الجمهورية»، لكن كل المؤشرات تؤكد ان القرار ليس عند الحريري، والا لكان سمى عون مثلما سمّى النائب سليمان فرنجية، ودون ان يأبه بمعارضة الرئيس فؤاد السنيورة او النائب احمد فتفت اذ ان تيار المستقبل هو سعد الحريري وسعد الحريري هو تيار المستقبل.
قيادات داخل التيار تقول ان «الشيخ سعد» يعلم ان الطريق الى السرايا الحكومية يمر عبر القصر الجمهوري، وان الطريق الى القصر الجمهوري يمرّ بالرابية، لكن المشكلة انه لا يملك اي تأثير على الجهات الفاعلة في المملكة، اي انه يدور في الفراغ، ولا يمكنه ان يخطو اي خطوة في هذا الاتجاه بعدما فوجئ السعوديون (وهذا يستشف من كلام سابق للسفير السعودي علي عواض عسيري) بان طرحه لفرنجية مرشحاً للرئاسة لم يأت بالنتائج المرجوة بل ظلت الامور تدور حول نفسها.

ـ جعجع والسعودية ـ

والمثير ان تقول تلك القيادات ان باستطاعة الدكتور سمير جعجع وحده ان يتحدث الى السعوديين بصراحة، وربما بجرأة ايضاً، وهو الذي يعلم ان الرفاق في 14اذار بدأوا يتحدثون علناً عن الهبوط في شعبية رئيس تيار المستقبل وعن التخلخل في هيكلية التيار مع ما لذلك من تداعيات على قوى الاعتدال...
اضافة الى ذلك، ان جعجع الاكثر تطرفاً في الهجوم على «حزب الله» والاكثر تطرفاً في العداء للنظام السوري، يدرك ان لبنان في خطر، وان قرار المقاطعة استقطب فئات واسعة من المسيحيين الذين يعتبرون ان مقولة لبنان يحلق بجناحيه المسلم والمسيحي لم تعد واقعية ابداً، بل هو يتخبط بجناحيه السني والشيعي والى  امد غير منظور، وقد يهدر الدولة في لبنان بما لا تحمد عقباه.

ـ خليل: اسوأ مرحلة ـ

حتى ان الرئيس بري الذي كان الباحثون عن شيء من الامل يقصدونه لا يبدو في هذه الايام متفائلاً، ومعاونه السياسي الوزير علي حسن خليل يقول «اننا اليوم في اسوأ مرحلة من مراحل حياتنا السياسية في لبنان، ولا يعقل ان نجلس كقوى وتيارات منتظرين دون ان نبتدع صيغاً للحلول».
وسأل «كيف نعطل عمل الحكومة، ونحن نعرف انه ليست لدينا اية مؤسسة قائمة في البلاد، وماذا اذا سقطت ولم تعد قادرة على ان تعمل اكثر من تسيير اعمال الناس».
مصادر سياسية رفيعة المستوى في 8 آذار تقول ان «حزب الله» متوجس الى ابعد الحدود من استمرار الازمة على ما هي عليه، وانه يبذل قصارى جهده للحيلولة دون توجه البلاد نحو الاستقطاب الطائفي في هذه الظروف (وحيث اللعبة الدولية، تأخذ مجراها) وبعدما انهكها الاستقطاب المذهبي الذي لا يزال هناك من يؤججه وبشتى الوسائل.

ـ الوفاء للمقاومة ـ

وفي هذا السياق، دعت «كتلة الوفاء للمقاومة» الى «التنبه من التهميش لمكون اساسي في البلاد هو التيار الوطني الحر اذ لا يمكن ان يستقر العمل السياسي دون مشاركته».
ولاحظت الكتلة «ان الازمة السياسية بلغت حداً خطيراً يهدد هيكل الدولة، ما يتطلب حساً وطنياً، والخروج من المكابرة التي يصر عليها تيار المستقبل»، مشيرة الى ان هذا التيار «لم يستطع تلقف دعوة الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله لايجاد مخرج للازمة».
اضافت ان لكلام السيد نصرالله «بعداً وطنياً ونحمل الفريق التعطيلي في تيار المستقبل  مسؤولية اجهاضه».
جهات سياسية واعتبرت ان بيان الكتلة انما يريد القول للحريري تحديداً «اننا كلنا في خطر، وان الخيار الوحيد هو تجاوز قوى التعطيل داخل تيار المستقبل والتأمل ملياً في كلام السيد نصرالله»،  بدل ان يترك للبعض التعامل مع هذا الكلام بالاسلوب اليومي المعروف.
هذه الجهات تعتبر ان الحريري يدرك ان لبنان الآن يمشي على خيط رفيع، ولعله خيط العنكبوت، لكن المشكلة ان القرار ليس في بيت الوسط وانما في مكان آخر...
النائب غازي يوسف وصل الى حد وصف الميثاقية هرطقة دستورية وقانونية من اجل تعطيل العمل الحكومي، ليشير الى «ان التيار الوطني الحر يختبئ وراء سلاح «حزب الله»، وقدرته وسيطرته على البلد، وبالتالي يحاول الوصول الى مكاسب كبرى » (ضمنا رئاسة الجمهورية).
والاستنتاج الذي تخلص اليه الاوساط السياسية هو ان لبنان يعيش ازمة خطيرة، لكن كل طرقات الحل مقفلة، والى حد القول ان التطورات الاخيرة ابتلعت جلسة الحوار في 5 ايلول المقبل.
جلسة مجلس الوزراء امس عقدت وسط اصرار سلام (ومعه بري) على المضي في عقد الجلسات بعيداً، قدر المستطاع، عن اي استفزاز، حتى ان الوزير سجعان قزي يتحدث عن جلسة بقفازات حريرية...
ومع ذلك، لم تخل الجلسة من لحظة دراماتيكية حين انسحب وزير السياحة ميشال فرعون منها بحجة انها تطرقت الى مسائل اساسية (توزيع اعتمادات وزارة الاشغال العامة والنقل) وبعدما كان فرعون قد تمنى ارجاء الجلسة، في حين كان سلام يبلغ من يتصلون به بانه اذا لم تعقد جلسة الخميس فلن تنعقد اي جلسة اخرى. وفي هذه الحال تغدو الاستقالة امراً واقعاً.
السؤال يبقى لماذا تغيب وزير الداخلية نهاد المشنوق عن الجلسة؟ الجواب سيسرّبه لسلام فقط، وان كنت مصادر مطلعة تقول ان المشنوق كان يفضل ارجاء الجلسة الى ما بعد عودة رئيس الحكومة من نيويورك في 5 ايلول المقبل باعتبار ان عقدها امس سيعزز موقف عون ويؤدي الى استقطاب مسيحي يفترض تفاديه بأي طريقة، وبعدما كان تصريح النائب البطريركي المطران بولس صياح حاسماً في الموضوع، ودون ان يكون بالإمكان القفز فوق بكركي اذا كان القفز فوق الرابية ممكناً او يخيل للبعض انه ممكن.