ابتدأت مسيرة الحوار الإسلامي المسيحي في العام 1984 في اجتماع عقدته مجموعة عمل مسيحية من مجلس كنائس الشرق الأوسط ضمت طارق متري وغابي حبيب وجورج ناصيف وجيروم شاهين (ولعل غيرهم كان معهم أيضًا ولا أعرفه) اجتمعت في قبرص وقررت بدء حوار مع المسلمين في قضايا المجتمع والدولة والعيش المشترك والمواطنة والعدل (صدر عنها ورقة عمل: "نحو برنامج خاص بالإسلام وبالعلاقات الإسلامية المسيحية"، حزيران 1984)... وتتالت اجتماعات قبرص في ليماسول وبافوس ثم في أيانابا حيث كان مركز القسيس السوري رياض جرجور ضمن مجلس الكنائس العالمي... وكنت مع عدد آخر من المسلمين (قليل جدًا جدًا) نحضر عددًا من هذه الاجتماعات ونشارك في الكثير من الحوارات... ومن هذه الاجتماعات ما بين عامي 1985 و1990 ولدت عدة مجموعات حوارية أولها لقاء الحوار اللبناني (رامز سلامة ومنح الصلح وطارق زيادة وحسين ضناوي وسعود المولى وغيرهم) التي صارت لاحقًا بقيادة جماعة مسيحية دولية اسمها حركة التسلح الخلقي... ثم مجموعة الهيئة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم (التي أسسها أنطوان مسرة ورفاقه خصوصًا ابراهيم طرابلسي والقضاة حسن قواص وواصف حركة وغيرهم)... ثم الهيئة الاسلامية للحوار التي شكلها الشيخ محمد مهدي شمس الدين وضمت سعود المولى وهاني فحص ومحمد السماك وسليمان تقي الدين ووجيه كوثراني (وبعض الأصدقاء الشيعة والسنة والدروز)... ثم جاءت مرحلة التسعينيات وأسسنا اللجنة الوطنية للحوار 1992 ممثلة للمرجعيات الروحية الرسمية في لبنان وضمت: سعود المولى ومحمد السماك وحارث شهاب والمطران سليم غزال وغابي حبيب وسليمان تقي الدين وجان سلمانيان. ثم انضم لاحقًا عباس الحلبي (محل تقي الدين) وكميل منسى (محل المطران غزال) وميشال عبس (محل غابي حبيب)، وتحولت لاحقًا الى هيئة بروتوكولية لا قيمة لها منذ وفاة شمس الدين 2001. ثم شكلنا الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي في عام 1992 (سعود المولى وهاني فحص ومحمد السماك وطارق متري وجورج ناصيف وغابي حبيب من لبنان ومحمد سليم العوا وطارق البشري وسمير مرقس من مصر وفاروق جرار ووليد سيف من الأردن، وبعدها انضم في عام 1995 رياض جرجور وعباس الحلبي وحارث شهاب وكميل منسى من لبنان وحسن مكي من السودان ومهدي عبد الهادي ورفيق خوري وموسى درويش وجريس خوري من فلسطين ويوسف الحسن وعز الدين ابراهيم من الإمارات ، وغيرهم)... في حزيران من العام 1992 دعا البابا يوحنا بولس الثاني لعقد سينودوس خاص من أجل لبنان... يومها لم يتجاوب معه من المسلمين اللبنانيين غير الشيخ شمس الدين... رفض القادة السياسيون والدينيون المسلمون السينودوس واتهموا البابا بالإعداد لحرب صليبية جديدة وقال نعيم قاسم يومها إن السينودوس سيكون مؤتمر كليرمونت فيران جديد (منه انطلقت الدعوة للحملات الصليبية)... وحين ذهبنا إلى السينودوس كوفد اسلامي بتغطية ودعم من شمس الدين، خرج نعيم قاسم نفسه ليتهمنا بأننا لا نمثل المسلمين... ومع ذلك لم نهن ولم نتهاون وواصلنا المسيرة...
في كانون الثاني 1993، وفي مواجهة تلزيم المخابرات الأميركية لبنان للهيمنة والوصاية السورية والانقلاب على الطائف، وفي قمة الاحباط المسيحي الذي تجسد في مقاطعة انتخابات صيف 1992، أطلقنا المؤتمر الدائم للحوار اللبناني(سمير فرنجيه وهاني فحص وسعود المولى وفارس سعيد ومحمد حسين شمس الدين ورشيد الجمالي وحسين ضناوي وأحمد السنكري وخالد لطفي وحمزه عبود ونزيه درويش وشوقي داغر وسمير عبد الملك وقيصر أبي اللمع وجان حرب وميشال خوري ومياد حيدر وعصام عقيل وحسين حميه وحسن بزيع وحسن محسن وعلي ابراهيم وهشام ابراهيم وحسين بعلبكي... وغيرهم)... حظي المؤتمر برعاية ودعم الشيخ محمد مهدي شمس الدين والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير في محاولة لإنشاء قاعدة شعبية لاتفاق الطائف وعلى أساس أن الأولوية هي لإعادة بناء دولة وطنية تحفظ السلم الأهلي وتحمي التعددية. وقد أصدر المؤتمر في أعوام 1993-1998 نشرة أسبوعية باسم (قضايا الأسبوع) ثم مجلة شهرية باسم (قضايا الحوار) وكتابًا دوريًا باسم (قضايا لبنانية)... شارك في تحريرها ونشرها إضافة الى مؤسسي المؤتمر نخبة من ألمع مثقفي لبنان أبرزهم طارق متري وخالد زياده وجورج ناصيف ونصير الأسعد وسليمان تقي الدين وموسى وهبه ومحمد أبي سمرا وسمير قصير وعقل العويط وطوني فرنسيس وداوود صايغ ومحمد السماك والياس عطالله والعشرات ممن صاروا لاحقًا أبرز أقطاب وكوادر حركة المجتمع المدني... وخلال مسيرتنا الحوارية بمختلف أشكالها ولقاءاتها ومؤتمراتها وأعمالها وخصوصًا لجهة الدفاع عن المظلومية المسيحية والمطالبة بتطبيق اتفاق الطائف (بعد مرحلة ما سمي بالإحباط المسيحي صدرت وثيقة اللجنة الوطنية 1995 التي وافقت عليها القيادات الروحية بضغط من شمس الدين وفيها موقف واضح من المطالب المسيحية بالتوازن والمشاركة ومن الوصاية السورية)؛ لم يتعامل حزب الله مع أي معطى حواري بجدية أو بوضوح... كان رفض الحوار هو السمة الغالبة وكانت الكيدية وعقلية الغلبة والتحالف الاستراتيجي الكامل مع سوريا وضرب الوجود المسيحي في لبنان هو السياسة الرسمية... وحين صدر بيان المطارنة الشهير في أيلول 2000 قامت قيامة الحزب وجماعة سوريا ضدي لانني كتبت مقالة أيدت فيها البيان والموقف الذي عبر عنه بشجاعة بطريرك لبنان مار نصر الله بطرس صفير... ثم تشكل لقاء قرنة شهوان وحركة التجدد الديموقراطي والمنبر الديموقراطي ووقف الحزب وكل ما صار لاحقًا 8 آذار موقفًا معاديًا ومحرضًا...
في العام 2001 وبعد أشهر على وفاة شمس الدين قررنا في الفريق العربي للحوار والمؤتمر الدائم للحوار اللبناني تشكيل هيئة حوارية تضم حركة أمل وحزب الله وقرنة شهوان (بعد مظاهرة السواطير الشهيرة)... يومها اجتمعنا في مونترو بسويسرا (30 شخصية من كل الطوائف والاتجاهات) وشكلنا اللقاء اللبناني للحوار... كان حزب الله بحاجة للحوار وللتواصل مع المسيحيين... وطوال 4 سنوات اشتغل اللقاء على موضوعات الطائف والدولة المدنية إلى أن كان اغتيال الرئيس الحريري (وقبلها محاولة اغتيال مروان حماده) ثم تشكيل 8 آذار كتيار سوري- إيراني في لبنان (شكرًا سوريا) فقرر الحزب والحركة تعطيل اللقاء وهكذا كان... طبعًا كنا نجتمع كمستقلين في اللقاء ولكن اللقاء مات بموت الحاجة التي دعت الى تشكيله وهي فكرة إيجاد تواصل وحوار دائم بين حزب الله وقرنة شهوان... وحين تشكلت هيئة الحوار الرسمية عام 2006 كان حزب الله هو الذي أنهاها وقضى عليها... ثم كانت الحرب على الشعب السوري وانتهت اللقاءات المدنية الحوارية لتحل محلها طاولة حوار في عين التينة يردفها حوارات ثنائية مثل الحوار بين المستقبل وحزب الله، والحوار بين تياري جعجع وعون ...إلخ.
لكن اليوم انتهى هذا الزمن وانتهت معه كل الحركات الحوارية والمبادرات المماثلة. فالثورة السورية 2011 خلقت وضعًا جديدًا في كل المنطقة تطور إلى انطلاق حراكات مدنية خارج الاصطفافات القديمة خصوصًا بعد فشل تجربة المجلس الوطني لمستقلي 14 آذار. والحال أن المطلوب اليوم هو التجديد والتقدم وعدم التطلع إلى الوراء إلا للدرس والتعلم. إن السلم الأهلي والمصالحة الوطنية والتسوية العادلة المتوازنة هي أسس العقد الاجتماعي اللبناني ما يعني نبذ لغة التخوين والتكفير وعمليات نبش الذاكرة واستحضار الماضي استنسابيًا. والمطلوب مراجعة نقدية حقيقية للتجربة الماضية عنوانها الحقيقة والعدالة. والمطلوب تأسيس ذاكرة وطنية جديدة وثقافة وطنية ديموقراطية تستوعب تجارب الماضي وتستفيد من دروسه ومحنه.
وقد صار من الواجب اليوم أيضًا العمل على تأسيس تيارات وكتل سياسية جديدة تستفيد من تجربة الحراك المدني الأخير ومن كل التجارب السابقة وتضع نصب أعينها إقامة كتلة تاريخية صلبة أو جبهة وطنية عريضة من أجل السلم الأهلي والمصالحة الوطنية والإصلاح وذلك على طريق بناء الدولة المدنية الديموقراطية. أي بلغة السياسة والنظرية الثورية إنها مرحلة "الديموقراطية الوطنية الجديدة". فلا يجوز حرق المراحل، كما تعلمنا من خبرتنا الطويلة، وإلا احترقنا واحترق معنا البلد. ولا يجوز التأخر عن دعم الحراك المدني بكل أشكاله وإلا شاركنا في الاستحمار والاستغلال.
أدعو أصدقائي وصديقاتي في كل التجمعات المدنية والديموقراطية التي نشأت منذ العام 2001 وتلك التي خرجت على أحزابها وجماعاتها؛ ولعل بعضها كان أفضل وأرقى من تجربتنا: أدعوهم وأدعوهن إلى حوار منتج خلاق مجدد يستهدف تشكيل ائتلاف سياسي مدني ديموقراطي جديد (مؤتمر للحوار والمواطنة والدولة المدنية) على غرار حزب المؤتمر الهندي أيام غاندي ونهرو يكون فيه تمثيل مناطقي وطائفي وجندري وعلماني ويتشكل ضمنه منابر فكرية متعددة (يسارية ويمينية، ليبرالية وثورية...إلخ) تناقش أفكارًا جديدة وبرامج جديدة لزمن جديد. مؤتمر ديموقراطي تعددي يستوعب تجارب الجميع ويحترم الجميع ويطرح مبادرات لإنقاذ الوطن وبناء الدولة. مؤتمر يكون فيه مكان للروح الثورية والتقدمية التي ألهبت وتلهب حركاتنا الشبابية الاحتجاجية، وللعقلانية الديموقراطية الليبرالية السياسية التي عليها أن توجه كيفية التعامل مع اختلافاتنا، وللاشتراكية الاجتماعية الإنسانية التي هي أساس تحقيق العدالة بين الناس.