تتسارع التطورات في الشمال السوري بوتائر قياسية، وحركة الميدان تواكبها، وإن عجزت عن مجاراتها، حركة دبلوماسية تقودها موسكو في أكثر من اتجاه.

تحاول موسكو حصر الأضرار الناجمة عن الأزمة، التي انفجرت أخيراً في الحسكة بين الجيش السوري و"وحدات الحماية الكردية" وقوات "الأسايش". فتنشط على خط تثبيت هدنة بين الطرفين، بعد فشل الهدنة السابقة، التي تم التوصل إليها الأحد (21/08/2016)، والتي خرقتها المجموعات الكردية، وأكملت بعدها سيطرتها على حي النشوة الشرقية الذي يضم مركز "الدفاع الوطني"، وعلى أجزاء واسعة من حي الليلية جنوب المدينة والقسم الشرقي من حي غويران شرق المدينة، إضافةً إلى مراكز حكومية عدة. فيما ضرب المهاجمون طوقاً حاصروا عبره مقارّ حكومية وأمنية عدة، بينها فرع المرور والهجرة والجوازات والسجن المركزي، لتنحصر سيطرة الحكومة على المربع الأمني في المدينة.

وبتقدمهم الأخير، أصبح جزء كبير من مدينة الحسكة بأيدي الأكراد، وفق تقديرات لمصادر ميدانية وأهلية في الحسكة.

وقد تواصلت الاجتماعات اليوم الثلاثاء 23 أغسطس/آب في مطار حميميم برعاية روسية، بغية إنتاج هدنة جديدة ومستدامة.

وتدور المفاوضات، كما تقول مصادر عليمة، حول طلب كردي يقضي بحل قوات الدفاع الوطني، وهو ما تدرسه القيادة العسكرية السورية ليصار إلى ضم هؤلاء إلى قطاعات الجيش السوري النظامية. 

كما تشمل بنود الاتفاق إطلاق سراح عدد من المعتقلين الأكراد الذين اعتقلتهم قوات الدفاع الوطني، وإطلاق سراح مديرين حكوميين خطفتهم القوات الكردية خلال الهجمات الأخيرة.

وإذا تمّ توقيع الاتفاق الذي يجري وضع لمساته الأخيرة، فسيعني ذلك ضمان الدولة السورية بقاءها السياسي عبر وجودها في المربع الأمني بمدينة الحسكة، في خطوة لإغلاق هذه الجبهة الجديدة وتركيز جهود القوات السورية على جبهات أخرى أكثر أهميةً ، وعلى رأسها جبهة حلب.

بيد أن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة قبل التوصل إلى هدنة غير قابلة للخرق من جديد. ذلك، أن واشنطن تقف غير بعيدة ترقب التطورات بعين المحرض، وهي التي هددت قبل ذلك باستهداف الطيران السوري في حال إغارته مجدداً على مواقع الأكراد.

وقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها "ستواصل حماية قوات التحالف الدولي ووحدات المعارضة الموالية لها في سوريا من ضربات الطيران السوري والقوات الجوية الروسية".

أما موسكو، التي تقاسم دمشق كما يبدو تقييمها للأولويات في الوقت الراهن، فسارعت إلى نزع فتيل الانفجار المحتمل عبر تقديمها مقترحاً بضم الطيران السوري إلى التفاهم الروسي الأمريكي حول أمن التحليقات، ما يعني إنشاء آلية لتجنب وقوع حوادث بين الطيران السوري والقوات الجوية الأمريكية في المنطقة، وإشراك دمشق في الاتفاق الروسي-الأمريكي للتنسيق في سوريا.

في غضون ذلك، نقلت صحيفة "إيزفيستيا" الروسية عن مصدر لها في الأوساط الدبلوماسية-العسكرية الروسية، الثلاثاء 23 أغسطس/آب، أن "مبادرة وزارة الدفاع الروسية ظهرت بسببِ زيادة نشاط الطيران السوري بشكل كبير بعد تسلّم دمشق قاذفات من نوع "سوخوي–24 إم2" وإعادة طائرات أخرى بعد صيانتها".

ومن المتوقع أن يناقش وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأمريكي جون كيري المقترح الروسي خلال لقائهما المرتقب في جنيف.

المحلل السياسي مازن بلال قرأ المقترح الروسي ضمن صورة أشمل، ورأى أن الأمر يرتبط بحزمة كاملة تفكر فيها روسيا؛ لأن مسألة إدخال الطيران السوري ضمن أمن التحليقات الأمريكية-الروسية يعني الاعتراف الأمريكي بشرعية العمليات العسكرية السورية بشكل عام، ولذلك من المستبعد أن توافق واشنطن على مثل هذا الأمر من دون وجود غطاء سياسي يؤطر هذا الاتفاق.

فالمسألة على حد قوله مرتبطة بكيفية السير نحو تفاهمات سياسية تضمن للأطراف المعارضة أحقية الدخول ضمن هذا الاتفاق كمناطق لا يمكن أن يدخل إليها الطيران السوري.

ويتابع: "الموضوع يبدو معقداً نوعاً ما، لكنه بالنسبة إلى موسكو يعدُّ ضرورياً من أجل التهدئة في الحسكة".

ويحاول الكاتب والسياسي السوري توسيع زاوية الرؤية، مؤكداً أن كل ما يحدث الآن ما بين الحسكة ومنبج وجرابلس هو لإنشاء جبهة مدعومة أمريكياً مقابل الجبهة الروسية-الإيرانية التي ظهرت سابقاً ما بين الشمال في حلب باتجاه الجنوب إلى حماة والشرق إلى تدمر.

من جهة أخرى، قلّل مازن بلال من حجم التغير المرتقب في الموقف التركي على خلفية الأحداث في الحسكة، لافتاً إلى أن كل المؤشرات التركية ما زالت مرتبطة بزيارة جو بايدن إلى أنقرة، وأن هذه المباحثات يمكن أن تحدد نوعية الدور التركي المستقبلي والعلاقات بين أنقرة وباقي أعضاء حلف الناتو".

فالمسألة بالنسبة إلى أنقرة أكثر تعقيداً مما نتوقع، لأنها تواجه أزمة على حدودها الجنوبية، والأمر لا يتعلق بحركة الأكراد فقط، بل وبإمكان اندلاع اشتباك دولي في هذه المنطقة. وما يجري يمكن أن ينقلب على الوفد المفاوض في جنيف؛ لأن الأكراد أصبحوا أمراً واقعاً، وهذا سيقلل من الحصص السياسية لتركيا.

والامتحان بالنسبة إلى تركيا اليوم، كما يرى بلال، هو في التوفيق بين أمنها القومي على الحدود الجنوبية نتيجة تحركات الأكراد، وبين علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ويبدو أن أنقرة تحاول إيجاد تعويض عبر علاقات إقليمية أقوى مع طهران وموسكو، مع بروز مؤشرات على توجه تركي نحو فك الارتباط السياسي مع السعودية في الأزمة السورية.

نحن أمام مرحلة جديدة من الأزمة السورية تحاول فيها الولايات المتحدة التلويح بالتقسيم، لكن غاياتها الرئيسة إقليمية؛ لأن ظهور دولة كردية في شمال سوريا هو عامل ضغط على طهران وأنقرة بالدرجة الأولى، باعتبار أن قيادات "الاتحاد الديمقراطي" الكردي هي إيرانية وتركية.