تمهيد: أثار استعمال "البوركيني" من قبل مسلمات موجة احتجاج واسعة في فرنسا، ممّا اضطرّ بعض البلديات لحظره، ففتحت مشاكل الاندماج والتعصّب في الغرب الذي استقبل خلال ربع القرن الماضي موجاتٍ متتالية من المهاجرين من الجنوب المفقر والبائس ،حتى بلغت مداها هذا العام حيث تدفق مئات آلاف الهاربين من ويلات الحروب المندلعة في العالم العربي، حاملين معهم هذه المرّة، بالإضافة لمشاكل الهجرة المعروفة، رواسب التعصب والتخلف وصولاً إلى مخاطر الإرهاب.
أولاً: ذاكرة التاريخ: الغرب يجتاح الشرق..
لو عدنا بالذاكرة إلى أيام تمرّد الغرب (المسيحي) على الشرق (الإسلامي) أواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، أيام الحشرجات الأخيرة للامبراطورية العثمانية، لبدت الصورة اليوم مقلوبة، أو في وجهها السلبي عمّا كانت في تلك الأيام الغابرة، فالاوروبيون اندفعوا وقتها بأسلحتهم ومؤسساتهم الحاملة غناها المادي والتقني، وشعارات التنوير والإصلاح ونقل المدنية، وما يستتبع ذلك من أشكال جديدة في المناهج والمنظومات التعليمية والحقوقية والإدارية، فضلا عن ترويج السلع والتقنيات الجديدة، ولم يوقف الغرب هجومه عند حدّ، فقد حاول اختراق البُنى التقليدية والعقيدية منها، وكان ردُّ الفعل متأرجحاً ومتناقضا في بعض الأحيان، فقد أصبح "الغرب نموذجاً يُحتذى من جهة، ومرمى للتجريح من جهة أخرى" كما يقول محمد الحبابي، ومهما يكن فقد نفذ الاستعمار إلى بلادنا ، فاستقبلته الشعوب بحماس حيناً وبخفر حينا آخر قبل أن تنتفض للتخلص من أدرانه. لكن، حتى الذين حاولوا لجم اندفاعته انجذبوا سريعا إلى أحضان المدنية والحضارة الأوروبية الوافدة مع الأطراد المتسارع لنمو المدارس الحديثة، ووسائل النقل الحديثة، والانتشار السريع لوسائل الإعلام وأجهزة التثقيف والصحافة، وقد تفاءلوا بمبدأ الاستفادة من الحضارة الغربية بأخذ ما يفيد لمواجهتها، كأداة الحرب والمتاع والماعون والعلوم والقانون، مع محاولة الحفاظ على طابع التراث الإسلامي وديباجته الشرقية، والتراجع خطوة إلى الوراء لتنظيم المواجهة والبدء بالداخل لتستقيم مواجهة الخارج، وتنظيم الداخل يعني العودة إلى الأصول، إلى منابع الدين والحضارة الإسلامية.
الصورة مقلوبة، لأنّ الاندفاعة الأوروبية إلى العالم العربي والإسلامي سمحت لشعوب هذه المنطقة بعد الاحتكاك بالغرب من إنعاش الحياة الثقافية (وخاصة العربية منها) كردّ فعل طبيعي على الحضارة الأوروبية، فاستنفر العرب تراثهم الحضاري وخاصة اللغة والأدب لتبيان جدارتهم بين الأمم المتحضرة، وقد نشأت في هذا الخضم الحركات التنويرية وحركات الإصلاح الإسلامي، وانتشرت المنتديات الأدبية والسياسية، وتشكلت حركات المقاومة للوجود الاستعماري، فولّدت موجات تضامن قومي سمحت بإزاحة الاستعمار (ولو مادياً) وولّد أملاً خاصاً بعصر استقلال وتحرر وتنمية، وقد أطاحت بكل ذلك الديكتاتوريات التي ورثت مواقع الاستعمار، وزرعت الظلم والفساد وولّدت النزاعات "الأهلية"، غير أنّ لذلك همّاً آخر لسنا بصدده هنا.
ثانياً: اندماج مآسي المهاجرين مع محنة الغرب..
ينبغي أن نعترف بأنّ الغرب الواقع تحت وطأة الهجرة غير الشرعية، لو لم يكن قوياً متيناً بما فيه الكفاية، لما تمكّن من استقبال هذه الجموع الضخمة من المهاجرين، ونعني أنّه قوي ،بالبنى التحتية وخاصة الصناعية منها، وهو قوي، بالاقتصاد المتين والأنظمة السياسية الديمقراطية المتماسكة، لأنّ استقبال المهاجرين وتوفير الظروف المعيشية المطلوبة ولو بالحدّ الأدنى ليس أمراً سهلاً، ولا بدها بطبيعته، وتأتي بعد ذلك مشاكل الاندماج الحضاري والثقافي والاجتماعي والنفسي، فلولا الضائقة المادية لما هاجر الناس من عشرات السنين وتركوا أوطانهم وديارهم وذكرياتهم وأهلهم، هذا قبل أن تقتلعهم الحروب المندلعة في كل مكان ، فركبوا البحار وجازفوا بحياتهم للوصول إلى برّ الأمان الأوروبي. ويبقى أنّ على هذه الجموع من المهاجرين والتي لا بُدّ أن تتعرّض في مواقع هجرتها للمهانة والذّل، ولو من الجانب النفسي، وعليها أن تبذل جهوداً مضنية من الجسد والروح لتتمكّن من الاستقرار والبقاء على قيد الحياة، وفي هذاالجانب لا مسؤولية البتة على الدول المضيفة، بل على الأوطان التي تدفع بأبنائها خارج فضائهم الطبيعي، وما لا شكّ فيه أنّ مشكلة المشاكل هي صعوبة الاندماج، وما "البوركيني" إلاّ آخر تجلّياتها، وعدم توعية المهجرين بنبذ التعصب ومراعاة قيم السكان الأصليين وثقافتهم ومعاييرهم الحضارية ستفاقم المعاناة المأساوية لكلا الطرفين، ومن هذه المناكفات ينفذ اليمين المتعصّب المطالب بالمحافظة على صفاء العرق الأوروبي الأبيض، ورمي الأجانب( البرابرة والهمجيين) خارج القارة ، ولا بدّ للمهاجرين أن يراعوا ثقافة الغير وتجلّياتها الخارجية، كالصلاة في الأماكن العامة، والتحرّش الاجتماعي والنفسي وصولا إلى الجنسي، وآخرها ارتياد البحر والسباحة بآخر إبداعات الإسلام "البوركيني" الذي قد يفضح أكثر ممّا "يستُر".