بين القاذفات الإستراتيجية الروسية التي تنطلق من قاعدة همدان الإيرانية والودّ الطارئ الذي هبط بين موسكو وأنقرة، تتصرّف طهران بارتباك وتلعثم وارتجال لا صلة له بالغرور الذي أصابها قبل عام فقط حين بشّرت العالم بأن إيران أصبحت إمبراطورية عاصمتها بغداد.
يوم الخميس الماضي أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية، دون داع لذلك، أن زيارة الوزير محمد جواد ظريف إلى أنقرة (الجمعة) تأتي تلبية لدعوة وجهها له نظيره التركي مولود جاويش أوغلو. لا تنفي أنقرة ذلك ولا تؤكده، لكن ما الذي يجعل طهران محرجة إلى درجة تدعوها للتفتيش عن مبرر يقف وراء استعجال وزيرها في السفر إلى تركيا بعد ثلاثة أيام على القمة الروسية التركية في سانت بطرسبرغ؟
نعم ارتبكت القيادة التركية من هذا التحوّل الذي تعد به اجتماعات فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. يظهر هذا الارتباك جلياً في ذلك الإفراط غير المتزن في الترحيب الذي أبداه ظريف بتقارب “الحليف” الروسي من “الخصم المنافس” التركي. بدا أن الابتسامات الفجّة التي وزعها على الصحافة وكأنه يلج عرسا، تخفي في ثناياها فاجعة الخروج من المأتم.
أكثر الضيف والمضيف من الكلام عن الاقتصاد والتبادلات التجارية والتعاون المرصّع بالأرقام. نسي وزير الخارجية الإيراني أنه ليس وزيراً للطاقة ولا وزيراً للتجارة، وأن الاجتماعات المغلقة والطويلة جدا التي جمعته بنظيره التركي، كما بالرئيس التركي، لم تتناول إلا شؤون السياسة التي يفترض أنها من صلب اختصاصه.
تبادل الطرفان على منابر أنقرة النفاق حتى بدا أن العرض مرتجل متعجل وأن الإخراج ركيك لا يمكن لأي مراقب إلا أن يلحظ الضيق في مضمونه.
لم يذهب ظريف إلى موسكو لاستطلاع تفاصيل النسخة الصادرة حديثا للعلاقات الروسية التركية المقبلة. خَبرَ الإيرانيون روايات الروس وأيقنوا الرشاقة التي يتحرك بها بوتين وفريقه في إدارة العلاقة مع طهران، لا سيما في الميدان السوري. عرف الرجل قبل أن يفكر بالتعريج على العاصمة الروسية أن أهل البلاد سيكرمونه بالمعسول من الكلام، فيما لم يعرف الإيرانيون وميليشياتهم التابعة خسائر تنزل بهم بهذا الحجم إلا حين تدخلت الآلة العسكرية الروسية في سوريا قبل أكثر من عام.
“من الآخر”، تريد أن تفهم طهران من أنقرة ما الذي ينتظرها وينتظر أجنداتها جراء “الحنان” الطارئ الذي لامس علاقات روسيا وتركيا. وربما في القلق الإيراني وما تمتلكه القيادة الإيرانية من معلومات ومعطيات ما جعلها تستنج جدّية بنيوية مقلقة في التوجهات الجديدة للبلدين الجارين. تحدث الروس عن بناء “السيل التركي” الذي سيسوّق الغاز الروسي إلى أوروبا عام 2019. على هذا تصبح تركيا ممراً إستراتيجيا حيوياً للاقتصاد الروسي نحو العالم. هذا يعني أن موسكو أسقطت خيار أوكرانيا، لكن هذا يعني أيضاً أن روسيا أسقطت خيار سوريا كممر للغاز، وبالتالي خفضت مستوى سوريا في سلم أولوياتها المتعلّقة بتجارة الهيدروكاربونات.
تأكدت إيران من أن “السيل التركي” خيار نهائي بالنسبة إلى روسيا إلى درجة أن ظريف، وبلغة تجار السوق العتيق، اكتشف فجأة أن تركيا تشكّل لإيران ممراً لشبكات الكهرباء والغاز بين بلاده وأوروبا. كان واضحاً أن رجل الدبلوماسية الأول في إيران هرول إلى أنقرة لدخول السوق والسعي إلى الالتحاق بما يمكن أن يرفع ربحاً ويخفف خسارة، ليس في عالم الاقتصاد، فهذا متاح ومنطقي ولا موانع دونه، بل في مسائل السياسة التي استدعت إغلاق الأبواب وبحث المقايضات طَوال ساعات طِوال.
منذ أن أوكل العالم أمر سوريا إلى فلاديمير بوتين فهمت طهران أن خياراتها في سوريا لا يمكن أن تمر إلا بمباركة روسية. خيّل للجنرال الشهير قاسم سليماني أن حنكته أقنعت الحاكم في الكرملين بالتحرك عبر النار في سوريا. وخيّل لبشار الأسد في دمشق أن أمر الصراع آيل إلى نصر يعيده زعيماً على ما يتجاوز “سوريا المفيدة”. بيد أن الجنرال والرئيس لما ينتظرا كثيرا ليكتشفا أن لبوتين أجندة تُحدد في موسكو ولا هدف لها إلا مصالح روسيا، وبالتحديد مصالحه في روسيا.
وتلك المصالح هي التي تقرر مدّ الغطاء الجوي لإسقاط تدمر مثلا وحظر ذلك الغطاء بما يكشف عورات القوات البرية في طوز خورماتو قبل أشهر وفي الراموسة قبل أسابيع. لكن تجاوزاً للتفاصيل الميدانية، فإن طموحات إيران في تغليب أجندتها الداعمة للنظام ورئيسه من خلال الحلف مع روسيا، ستصاب بنكسة قاتلة إذا ما مال مزاج موسكو في سوريا إلى توليفة مع أنقرة تحرس خطوط الغاز المارة في تركيا.
ولا شك أن ما عبّرت عنه منابر النظام السوري من تفاؤل بالتقارب الروسي التركي في “إرساء السلم في المنطقة”، يعبّر عن قلق يشاطر القلق الإيراني، من تحوّلات روسية بشأن الموقف من دمشق، حتى لو تواكبت مع تحوّلات تركية بشأن الموقف من المعارضة السورية. وإذا ما كانت لغة المصالح والأرقام التي طغت على مداولات سانت بطرسبرغ ستفرض على روسيا وتركيا الاهتمام بمصالحهما الثنائية، بغضّ النظر عن أجندات حلفائهما، فإن من حقّ دمشق وطهران أن يقلقا على مصير نظام يمتلكانه أكثر من قلق المعارضة التي مهما بلغت خسارتها ستكون رابحة في تصدّع مشروع بقاء النظام في شكله السابق والراهن.
ورغم أن طقوس زيارة ظريف لأنقرة بدت مرحة فرحة ودودة، بيد أن موقف تركيا بدا راعيا للمعادلة السورية المقبلة، أولاً من حيث الشكل، أي بقيام ظريف بالزيارة الاستطلاعية وليس العكس، لكن أيضا من خلال الدعوة التي وجهها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو لطهران إلى “اتخاذ مواقف إيجابية لإيجاد حل عادل في سوريا”، بما فهم منه، ولو عن غير قصد، أن في الأمر تلميحا لدور سلبي مارسته طهران حتى الآن لإعاقة تسهيل إنتاج الحل السوري. وفي إمكانات طهران لاجتراح المواقف الإيجابية ما لمّحت إليه (حسب حسين أمير عبداللهيان) بعد ساعات على عودة ظريف إلى بلاده من أنها سبق وأن دعت مرتين بشار الأسد وعائلته لزيارة طهران، بما أوحى أن لا مانع من دعوته مرة ثالثة، يوما ما، وهو ما ذهب إليه السيد حسن نصرالله في الدعوة إلى “مصالحات وتسويات”.
أعاد البلدان في أنقرة تكرار لازمة “الحفاظ على وحدة الأراضي السورية”. فالموقف الثنائي من أي مشاريع فيدرالية (دعت إليها موسكو) أو تقسيمية (تنبأت بها واشنطن) هو حقيقي وجدي لمنع الـ”بيجاك” وصحبهم في إيران و”ب ي د” في سوريا من الطموح إلى قيام كيانات تابعة للـ”بي كا كا” في تركيا.
وفي التكرار الممل التحدث عن تبادلات تجارية وطموحات اقتصادية مشتركة لم تتوقف أساساً رغم الحرب التي يخوضونها بالوكالة وبشراسة في سوريا. بيد أن الرتابة التقليدية التي وسمت علاقات طهران وأنقرة من حيث فصل السياسي عن الاقتصادي، لا يمكن إلا أن تسقط فتعاد قراءتها وفق تموضعات داهمة تفرضها “سانت بطرسبرغ” بانتظار التموضع الكبير للولايات المتحدة الأميركية بعد دخول رئيسها المقبل عتبة البيت الأبيض.
قد يخفف الإعلان الأخير عن اعتماد روسيا قاعدة همدان الجوية في إيران قاعدة لانطلاق قاذفاتها الإستراتيجية شيئاً من الارتباك الإيراني، وقد يجد الحاكم في طهران في الأمر تفضيلاً روسياً للخيار الإيراني عن ذلك التركي المطلّ حديثاً. لكن احتفال طهران بالحدث على ما أعلن رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، يمثّل توقاً لإرضاء موسكو ويُخضع الأجندة الإيرانية لتلك التي يحددها سيد الكرملين.
وفي الذاكرة الإيرانية أن الأتراك كانوا قد عرضوا على روسيا أوائل يوليو الماضي استخدام قاعدة أنجرليك قبل أن يتراجعوا، وأن التآلف الروسي التركي هذه الأيام قد يجدد العرض التركي عربوناً لتلك الصداقة الجديدة، بحيث تدخل موسكو إلى قاعدة عسكرية هي من صلب المنظومة الأطلسية.
يجري هذا الضجيج بين روسيا وتركيا وإيران ليتحدد مستقبل العالم العربي، وسط ذهول وصمت ملتبس لعواصم العرب.
محمد القواص: العرب