لم يؤخذ تلميح الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الى "مصالحات وتسويات" مع تنظيمي داعش والنصرة على محمل الجد. ُنسب ذاك الموقف المفاجىء فقط الى الانكسار على جبهات حلب، مع انه أخطر وأبعد مدى، ويمكن ان يؤسس لتحول جذري في العلاقة بين التنظيمات الثلاثة التي تتصارع في ما بينها، وتتنافس على إختزال الفتنة المذهبية الاسوأ في التاريخ الاسلامي الحديث، وعلى مصادرة الجهادية السلفية بأسوأ صورها وأعنفها، وأشدها إثارة لنفور عامة السنة والشيعة على حد سواء. لم يكن نصر الله فقط يتحدث على خطوط الجبهة، والارجح ان مقاتليه الموجودين في سوريا لم يستسيغوا تلك الرسالة المواربة التي وجهها الى داعش والنصرة، وكذا الامر بالنسبة الى جمهور الحزب ومريديه الذين عبئوا لسنوات طويلة على نبذ التنظيمين السنيين الأكثر تطرفاً وعلى وسمهما بالارهابيين التكفيريين..من دون ان يصل الامر طبعا الى حد تكفيرهما وإخراجهما من الدين، وهو ما لم يجروء عليه أحد من السنة أصلاً.
الانطباع الاول الذي أراد ان يخلفه نصر الله، في دعوته افراد التنظيمين الى القاء السلاح وانهاء هذه الفتنة، التي يتبرأ منها الحزب دائما مع أنه شريك فيها، هو انه ينفي الهزيمة الثابتة على جبهات حلب وغيرها، ويتحدث من موقع قوة، يعرض على خصومه الاستسلام ويفتح أمامهم طريق المصالحة التي تحولت الى نهج رسمي سوري- ايراني يهدف الى إختراق صفوف المعارضة السورية ومناطق سيطرتها..لكنها لم تنجح في الكثير من الحالات ولم تتمكن من ازالة أسباب الفرقة والريبة بين الجانبين.
في هذه الحالة يطرح السؤال عما اذا كان عرض نصر الله إجتهاداً فردياً أملته ظروف الاحتفال بالذكرى العاشرة لحرب تموز 2006 ، ام أنه موقف رسمي مدروس ومنسق مع كل من طهران ودمشق، اللتين لا يبدو انهما في وارد الصلح ولا حتى التعايش مع داعش والنصرة، ولم تصدر عنهما حتى الان اي اشارة الى مثل هذا الاستعداد للجلوس حول طاولة تفاوض مع التنظيمين. وهو ما يرجح الاحتمال الاول الذي تدعمه جاذبية فكرة ان يبادر رجل دين شيعي بالذات الى مخاطبة داعش والنصرة، باسم الاسلام والقرآن والنبي وغيرها من القواسم المشتركة التي تحضر للمرة الاولى. وهو ما يمثل منعطفا في تعريف الحزب لنفسه بوصفه حركة مقاومة للعدو الاسرائيلي تسمو على جميع الخلافات والصراعات والفتن الداخلية، ولا ترى في الحرب السورية إلا عدوانا خارجيا (اميركياً اسرائيلياً سعودياً تركياً..) على النظام الاسدي، وترفض حتى الان اي شكل من اشكال المساواة او المقارنة بينها وبين التنظيمين السنيين.
هو، من دون شك، إنقلاب جوهري في عقيدة الحزب وخطابه. لكنه لن يكون مغرياً لداعش والنصرة، لاسيما في صيغته الحالية وفي ظروفه الاستثنائية التي يميل فيها الميزان العسكري السوري تحديداً لصالح التنظيمين السنيين او أحدهما على الاقل، اي النصرة او جبهة "فتح الشام" حسب المسمى الجديد.. وهو ما كان يمكن ان يركز عليه نصر الله خصوصا وانه سبق للحزب أن تواصل وتفاوض وتوافق مع النصرة على أكثر من جبهة واكثر من معضلة أمنية او انسانية. وكانت النتائج مرضية بل مغرية للجانبين. لم يكن كلام نصر الله عبثاً، سواء كان عفوياً فردياً، او كان منسقاً سلفاً مع طهران ودمشق. لعل الامين العام لحزب الله كان يقرأ هذه المرة في كتاب المستقبل المفتوح أمامه، ويبحث في إحدى صفحاته عما ينبىء بذلك اللقاء التاريخي المرتقب بينه وبين ابو بكر البغدادي(اذا كتبت له النجاة) وابو محمد الجولاني يبتسمون لكاميرات الاعلام ويتبادلون الانخاب.. فتنطفىء نار الفتنة، وتُفتح طريق الجنة، ويُرمى بالباقين من السنة والشيعة في الجحيم.