تكلم زعيما روسيا وتركيا قليلا عن الملف السوري، لكنهما أغلقا الباب عليهما إلى ساعة متأخرة من الليل للحديث عن سوريا، وعن سوريا فقط، وراء تلك الأبواب. وفي ذلك الصمت وذلك التكتم ما يفيد أن لبنات تسوية تتراكم وأن “إمكانات الاتفاق” التي أعلنها بوتين قبل الاجتماع الليلي هي قيْد التشكّل. ليس في الأمر تنجيما، بل إن تفاصيل ميدانية في الداخل السوري ستفصح، لا شك، عن خفايا الخلطة التي ستؤسس لتلك المقاربة المشتركة في الملف الأكثر مثارا للجدل بين الطرفين.
تكشف قمة سانت بطرسبورغ بين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين عن جانب شخصي في طباع الرجلين يعطّل ويربك ويطوّر وينمّي العلاقات بين روسيا وتركيا. يكاد الزعيمان يتشابهان في الطموحات وفي الخيبات. بوتين يتحدّر من حلم الدولة السوفيية مترامية الأطراف حديدية النفوذ، وأردوغان يستدعي طموحات من قديم العثمانية التي كانت تقارع العالم زعامة الكون. وفي قصة الأحلام اصطدام بواقع لئيم يهيمن عليه الغرب بزعامة الولايات المتحدة، الذي مازال يذكّر الحالمين بواقع الراهن، وتقادم المعادلات السوفياتية العثمانية السابقة.
عشية القمّة الروسية التركية سرّبت الصحافة التركية ما أسمته “أسرار” المداولات الدبلوماسية التي أفضت إلى المصالحة بين موسكو وأنقرة. في مضمون التسريبات أن رسالة الاعتذار تم نحتها بما يمكن قراءتها خالية من الاعتذار ومتضمنة له. وفي مضمون التسريبات ما يُفهم منه أن الرئيس الروسي كان تواقا إلى تلك المصالحة كتوق الرئيس التركي إليها، وأن سرعة البتّ في الموضوع من خلال دعوة وزير الخارجية التركية من قبل نظيره الروسي إلى منتجع سوشي وإعلان المصالحة، تعكس “حاجة” مشتركة لرسم معالم مشتركة في لقاءات عاجلة.
في لغة الجسد التي عبّر عنها الزعيمان ما يفهم منه تدللاً بوتينيا مقابل التودد التركي. لكن الأمر لا يعدو كونه حردا مفهوما للضحية (التي قُتل طياروها وأسقطت مقاتلتها) على الجلاد (الذي تلى فعل الندامة قبل أسابيع). كان واضحاً أن بوتين وأردوغان يستعجلان الطقوس والشكليات ويريدان الغوص في الملفات الكبرى. وللمفارقة، فإن في ذهن الرجلين تواطؤا خبيثا على ألا يسمحا لـ”التفصيل” السوري بالتشويش على صفاء مراميهما.
الاقتصاد.. الاقتصاد.. الاقتصاد، ولا شيء غير ذلك في الوقت الراهن. لا يخطط سلطان تركيا لأن ينهج خيار الحلف الإستراتيجي مع روسيا بالمعنى السياسي والجغراسياسي، فذلك سابق كثيرا لأوانه، وربما لن يصله في أي أوان. بالمقابل لم يخطر ببال قيصر روسيا لحظة واحدة أن تكون تركيا جزءا من أوراسيا الروسية ولا حلقة داخل سلسلة تحالفاته العتيدة.
لكن الثابت أن رجب طيب أردوغان الحانق على هذا الغرب الذي خذله في امتحان محاولة الانقلاب، بعد أن خذله مرارا في مسألة العضوية في الاتحاد الأوروبي ومسألة التعاطي مع الحالة السورية، ذاهب بجدّية إلى إنعاش الخيار الروسي ليس من أجل جعله بديلا عن ذلك الغربي الأطلسي، بل من أجل تقوية أوراقه كشريك أساسي ووازن داخل المنظومة الغربية ببعديها السياسي والعسكري.
والثابت أيضا أن فلاديمير بوتين الذي يواجهه الغرب بلؤم في “عقر داره” منذ استدراج دول أوروبية شرقية إلى عضوية “الناتو”، ومنذ اقتحامه الفضاء الروسي عبر أوكرانيا يحصّن نفسه بالعدّة المنزلية، لكن أيضا من خلال تقارب لافت بدأه مع إسرائيل ويُلحقه هذه الأيام بذلك مع تركيا. وفي إستراتيجية بوتين (ما يشبه تلك التي ينتهجها أردوغان) عزم على تقوية أوراق الشراكة التي يريد للغرب أن يعترف له بها في العالم.
أن يعلن وزير الطاقة الروسي أن البلدين عازمان على بناء خط “السيل التركي” لسوق الغاز الروسي إلى أوروبا، فذلك يعني أن العلاقة بين البلدين لم تعد تحتمل سقطات وزلات كتلك التي جرت بسبب إسقاط الأتراك للمقاتلة الروسية على حدودهم. وبالتالي فإن طبيعة العلاقة الجديدة التي تربط البلدين بمشتركات حياتية إستراتيجية حقيقة في قطاع الاقتصاد تحتاج إلى احترام متبادل لأجنداتهما وهواجسهما.
لكن المشروع العملاق يعني أيضاً (رغم إعلان بوتين المهذّب بأنه سيستشير الأوروبيين) أن المستهلك الأوروبي سيتسلّم الغاز الروسي عن طريق تركيا، مستغنيا بذلك عن طريق أوكرانيا العزيزة على قلب واشنطن وعواصم القرار في الاتحاد الأوروبي. وربما يمثّل ذلك المشروع عينه وجهاً من وجوه المواجهة التركية الروسية المشتركة لأوروبا.
على أن الاتفاق على “السيل التركي” يسحب الخيار السوري كنقطة تقاطع لغاز الشرق نحو الغرب من التداول، على نحو يبرّئ روسيا نظريا من أي مصالح لها علاقة بسوق الغاز في أجندتها السورية، كما يخلّص تركيا من الخشية من ملف بهذا الحجم ضمن حساباتها داخل الصراع السوري الراهن. ولا ريب في أن تقارب روسيا وتركيا مع إسرائيل يصبّ داخل ورشة مصالح مشتركة لها علاقة بسوق الغاز بما يؤسس لتوافق الرؤى، لا سيما في المسألة السورية. لكن ما هو متعلّق برحلات غاز المنطقة نحو أوروبا يمثّل جانبا واحداً من جوانب انخراط تركيا وروسيا في هذا البلد، ذلك أن لموسكو وأنقرة مصالح إستراتيجية تتعلق بالأمن والدور الذي ترسمه العاصمتان لتوطيد وجودهما الإقليمي والدولي.
يكشف أردوغان أن حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين وصل إلى 35 مليار دولار وأنه انخفض بعد أزمة إسقاط الميغ الروسية إلى ما يتراوح ما بين 27 و28 مليار دولار. ويكفي تأمل أرقام ما بعد الأزمة لاستنتاج حجم التشابك الاقتصادي الهائل بين البلدين والإمكانات الكامنة للوصول إلى مستوى الـ100 مليار دولار التي ذكر أردوغان أنه يطمح إليها، لكي يفهم المراقب حجم المراهنات المشتركة على الاقتصاد واستعدادهما لـ”نحت” توافقات، حتى في سوريا، لبلوغ أعلى مستويات الانتعاش في أحجام الاستثمار ومعدلات التنمية.
كان واضحا أن التقارب الروسي التركي يجري وفق عزف دقيق ممهد لقمة الزعيمين. توقفت المنابر الرسمية كما الإعلامية في البلدين عن التلميح بما من شأنه التشويش على ورشة المصالحة. تبرّأ الإعلام التركي من أي تورّط لتركيا في دعم الهجوم الذي شنته المعارضة السورية وأدى إلى فك الحصار عن المناطق التي تسيطر عليها في حلب، حتى أن أقلاما عربية مقرّبة من أنقرة لم تجد في الهجوم المعارض إلا “هدية” تَصَادفَ وقوعها قبل أيام من زيارة أردوغان لسانت بطرسبورغ، فيما كان لافتاً سكوت الجانب التركي عن الهجوم الذي شنّه النظام وحلفاؤه بمباركة روسية قبل ذلك لـ”إسقاط” حلب. بالمقابل لم يصدر عن الجانب الروسي الرسمي والإعلامي ما يُفهم منه اتهام لتركيا بالوقوف خلف هجوم المعارضة.
لكن الحكمة تقضي بالتسليم بأن الاتفاق بين البلدين لتسوية الوضع السوري مستحيل هذه الأيام، ذلك أن الطرفين ليسا وحيدين في الميدان السوري، وأن للآخرين دلو يدلون به في العالم، وأن الحديث عن “تشكيل لجنتين من الجانبين لبحث الأزمة السورية”، لهو تأسيس للتعايش تحت سقف الخلاف وحصر الصدام في الميدان السوري إلى حدود مقبولة لا تربك ورش الاقتصاد.
يلتقي بوتين نظيره التركي ويختلي به لنقاش المسألة السورية وهو يعرف الدور القديم والجديد لأنقرة في دعم المعارضة، وهو لم يعر التقارير التركية المتبرئة من هجوم المعارضة الأخير أي اهتمام. ويعرض أردوغان وجهة نظره في سوريا مدركاً لسقوط طموحاته في إزالة نظام الأسد وإقامة نظام حليف له، كما يدرك الدور الروسي الذي حال، ويحول، دون ذلك. صحيح أن رجل تركيا يحمل في جيبه إنجاز المعارضة وموقف أوباما وحلفائه الأوروبيين المطالب بضرورة رحيل بشار الأسد، لكنه أضحى يعرف أن دون الأمر عقبات لا يمكن تذليلها يوما إلا بالاتفاق الكامل والشامل مع “الصديق” بوتين.
محمد القواص: العرب