أولاً: مصطفى كمال أتاتورك، باني تركيا الحديثة..
لا تولد شخصيات تاريخية في حياة الشعوب ومساراتها إلاّ بعد لأي، وفي تاريخ الترك ما زال اسم أتاتورك طاغيا وساطعاً بعد قرن من الزمن على قيادته لتركيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى، فإذ به يجمع الجيوش ويشحذ الهمم، ويخوض حروبا ضارية على جبهاتٍ ثلاث، أعنفها المعركة على الجبهة اليونانية، فانتصر في حروبه هذه، وطهّر تركيا من كافة الجيوش الأجنبية التي اجتاحتها خلال الحرب، وانبرى بعد أن وضعت الحرب أوزارها إلى بناء دولة فتية حديثة، أدار وجهها نحو الغرب المتفوق في كافة المجالات والصُعد،، وأغلق نافذة الإسلام المتحجّر والسلفي على مدى عشرة قرون، وسلخ تركيا من محيطها، وخاصة العربي منه، فبدّل حروف اللغة التركية من العربية إلى اللاتينية، وشكّل هذا الانقلاب العقيدي والثقافي والحضاري صدمة في داخل تركيا وخارجها، وخاصة العالم العربي، وتباكى كثيرون على "الخلافة" التي ضاعت، والأمجاد الإسلامية التي "طُمست" ،وحار المسلمون طويلا في تنصيب خليفة جديد، واختيار مقرٍّ له، فاقترح الأمير شكيب أرسلان مدينة الموصل( مقر أبي بكر البغدادي اليوم) ، وما زال الحنين إلى عزّ تلك الإمبراطورية ماثلا في الأذهان، فعندما وقف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في وجه إسرائيل وحصارها لغزّة، وحاول مدّ سلطانه إلى بعض الدول العربية، كما فعلت وتفعل إيران، وحاول أن يلعب دوراً فاعلا في إسقاط نظام بشار الأسد، تراءى للبعض أنّ مجد الامبراطورية العثمانية قد بزغ من جديد، وأنّ اردوغان "المسلم" يقلب صفحة أتاتورك، ويفتح وجه تركيا"المسلمة" على جيرانها المسلمين، فيغدو الحنين إلى ماضٍ تولّى قابلا للتحقيق والتطبيق، إلاّ أنّ اردوغان لم يرق حتى الآن إلى جرأة أتاتورك وصلابته، فوقف حائرا مترددا اتجاه الحرب السورية، حتى دقّت أبواب حكمه، ونقلت نيرانها إلى الداخل التركي، وظلّ يُقدّم رجلا ويُؤخّرُ رجلا، حتى داهمته المحاولة الانقلابية الأخيرة، وإذ به يسترضي الروس، الذين سخطوا عليه بعد إسقاط طائرتهم الحربية، وهم الذين يدعمون خصمه بشار الأسد بالعتاد والطائرات، وإذ يفتقد الآن دور أتاتورك الحربي، فهل يلجأ إلى أسلوب السلطان عبد الحميد الثاني؟.
إقرأ أيضًا: أردوغان الحائر بين أتاتورك والسلطان عبد الحميد الثاني
ثانيا : السلطان عبد الحميد الثاني والاستبداد التركي..
يرتبط اسم السلطان عبد الحميد بالاستبداد والقمع، وخاصة القوميات التي خرجت أوائل القرن العشرين للمطالبة بحقوقها وأمانيّها، فقُمعت بشدة، إلاّ النهج الحميدي كان الوقوف بجرأة وصلابة في وجه الغزو الاستعماري الغربي، ومقاومة كل محاولات تفتيت الإمبراطورية العثمانية، وفي هذا يذكر أنّ زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل زار استانبول فرفض السلطان عبد الحميد استقباله، ويروي أنّه قال: يستطيع اليهود الاحتفاظ بملايينهم، حتى إذا زالت دولة الخلافة، يأخذون فلسطين دون أي مقابل.
الرئيس اردوغان، وحتى الآن، لا هو خليفة أتاتورك، ولا خليفة عبد الحميد، لا يستطيع إدارة الظهر للمنطقة، والإسلام الذي فرّ منه أتاتورك، يلاقيه اردوغان في عقر داره، ولا يستطيع إدارة الظهر لأوروبا، فتركيا عضو في حلف الناتو، وحلم الاتحاد الأوروبي لم يخبُ حتى الآن، وهو مضطر لمراعاة الجانب الروسي، والإيرانيون في شمال سوريا، والأكراد همٌّ دائم، فهل يأخذ اردوغان نهج أتاتورك، نهج الغرب الأوروبي، أم يأخذ نهج السلطان عبد الحميد، فيغرق في مشاكل العرب والمسلمين، فتركيا كانت زعيمة العالم الإسلامي، وإسلاميّتُها على ما يبدو قدرٌ لا يُردّ.