خلال الأسبوعين الماضيين، سجلت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، أكثر من 40 كيانا سياسياً تمثل في أغلبها فصائل شيعية مسلحة حاربت داعش، وترغب في المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات مطلع العام المقبل، وكذلك البرلمانية عام 2018، بحسب مصدر من داخل المفوضية.
هذا التسريب الإعلامي، لا يعبر فقط عن انفجار في البنية السياسية العراقية التي أصبحت تعبر عن حالة طائفية موغلة في التفتت والانقسام وفق ما تريده الميليشيات المسلحة، بل إن مشروعية جديدة تولد من بين أنقاض ما تبقى من العراق تسمى “وراثة تنظيم داعش”. وهذا ما تدعيه الحركات المسلحة الخارجة عن الدولة (وبعضها مكوّن بأمر منها) شيعية كانت أم سنية، مثل الحشد الشعبي وتنظيم القـاعدة وحتى الأكـراد أيضا.
وراثة داعش تحيل العديد من المراقبين إلى أن وجود هذا التنظيم بالأساس قام على تخطيط بعيد المدى لإعادة توزيع الانتشار الإثني والطائفي في العراق لصالح فيدرالية من نوع آخر، وهي فيدرالية الواقع الحتمي لرغبات الأقليات في الاستحواذ على أقصى ما يمكن من الأراضي (خاصة الغنية بالثروة النفطية) ولا يمكن إيجاد أداة أفضل من تنظيم الدولة الإسلامية لتنفيذ تلك الرغبات، فبالقدر الذي كان فيه ظهور داعش مرتبطا بأسباب حضارية وفهم مغلوط للإسلام، كان ذلك الظهور ذا أسباب إقليمية وداخلية عراقية سهلت وجوده لاستعماله شماعة لإعادة التقسيم.
المجال الشيعي يتفتت
انقسمت الأطراف الشيعية على نفسها مناقضة التكتل الطائفي الذي طبع سلوكها السياسي في العراق منذ الاحتلال الأميركي سنة 2003. وبحجة قتال تنظيم الدولة الإسلامية (الذي يمهد لوراثة مجال سيطرته) فإن دعاية جديدة للمنافسة بين الميليشيات المسلحة والأحزاب السياسية (كلها من الشيعة) بدأت في الظهور.
وقد كانت الأحزاب الشيعية الثلاثة الرئيسية (الدعوة بزعامة المالكي، المجلس الأعلى الإسلامي، التيار الصدري)، تفرض سيطرتها على حصة الشيعة من المناصب في الدولة، لكنها بدأت تشعر بالخطر من خسارة شعبيتها لصالح فصائل مسلحة شيعية جديدة تحارب داعش، وبدأت منذ الآن مفاوضات مكثفة للتحالف معها، لا سيما بعد أن باتت تلك الميليشيات تمتلك شعبية كبيرة، بحسب قادة في الحشد الشعبي الذين اعتبروا مسألة حصولهم على أصوات واسعة في انتخابات مجالس المحافظات باتت شبه مؤكدة.
الأحزاب الشيعية بدأت تشعر بالخطر من خسارة شعبيتها لصالح فصائل مسلحة شيعية جديدة تحارب داعش
وشاركت الميليشيات الشيعية مع الميليشيات الأخرى بشار الأسد في سوريا، إلى جانب مشاركتها مع الأجهزة الأمنية الرسمية ضمن هيئة الحشد الشعبي التي تشكلت إثر فتوى “الجهاد الكفائي”، التي صدرت من المرجع الشيعي علي السيستاني في يونيو 2014.
وقد دخل المكون الشيعي الذي يقود الحكم في العراق، في صراعات سياسية داخلية، بعد أن سقطت عدة مدن بيد داعش، وذلك إثر الخلافات الحادة التي نشبت داخل “التحالف الوطني” (أكبر التكتلات الشيعية في البلاد)، لا سيما تلك التي عصفت بالعلاقات بين ائتلاف “دولة القانون” (يتزعمه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي) من جهة، وكتلة الأحرار (تابعة للتيار الصدري) والمجلس الأعلى الإسلامي (بزعامة عمار الحكيم) وحزب الفضيلة من جهة أخرى، بعد اتهامات للمالكي في ملفات فساد ومسؤوليته عن توسع نفوذ “داعش” إبان حكمه.
وبعد أن حققت القوات الأمنية الرسمية إلى جانب الميليشيات النجاح في تحرير بعض مناطق غرب وشمال العراق، أصبحت الأخيرة تمتلك نفوذا كبيرا في بغداد ومناطق جنوب العراق التي التحق المتطوعون فيها بالحشد الشعبي تلبية لتلك الفتوى.
لذا بدأت الطمــوحات السيـــاسية للميليشيات الشيعية (تشمل 62 فصيلاً حسب كريم النوري، عضو هيئة الرأي في هيئة الحشد الشعبي) بالظهور مع اقتراب الانتخابات المحلية المقبلة، وأصبحت منافسا قويا للأحزاب الشيعية التقليدية التي تراجعت شعبيتها من قبل الناخبين الشيعة الذين يحملونها مسؤولية ارتفاع نسب الفقر والبطالة في البلاد، وفق تقرير صادر عن وزارة التخطيط العراقية في يوليو 2016 والذي أكد ارتفاع نسبة الفقر في البلاد إلى 28 بالمئة.
وكشف حامد الجزائري، الذي يشغل منصب آمر اللواء السابع في الحشد الشعبي التابع لميليشيا سرايا الخراساني، عن “تسجيل فصيله لدى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ككيان سياسي يرغب بالمشاركة في انتخابات مجالس المحافظات المقبلة”، لافتاً إلى أن “مشاركتهم يريدون بها محاربة الفساد السياسي، انطلاقا من اعتبار داعش والفساد السياسي شيئا واحدا”.
ومع اقتراب موعد إجراء انتخابات الحكومات المحلية بداية 2017، لم تتجه الأحزاب في ما بينها للحوار، بل ذهبت صوب قوى جديدة ظهرت على الساحة العراقية بعد دخول “داعش” إلى العراق قبل عامين، وذلك لعقد تحالفات سياسية عبر تشكيل قوائم انتخابية استعدادا لخوض الانتخابات مع شركاء جدد.
تنظيم القاعدة يستغل انحسار داعش في العراق كي يكون مادة لمستقبله في العراق
القاعدة تطل من جديد
منذ أن كان تنظيم القاعدة يمثل أصلا من أصول التنظيمات الجهادية الإرهابية المسلحة، أصبح التنظيم مثل الجماعة الطفيلية التي تطل كلما تراجع نفوذ داعش في منطقة ما، وهو ما يؤكد استعداد إرهابيي القاعدة بدورهم لوراثة ما سيتركه داعش من أسلحة ومناطق نفوذ ومقاتلين جدد لا يفرقون جيدا بين التنظيمين الإرهابيين.
إذ تعاود القاعدة الظهور في محافظة ديالى التي تمتد بين بغداد والحدود الإيرانية والأطراف الجنوبية من منطقة كردستان. ونصبت مجموعة من مقاتلي القاعدة كمينا لمواقع تابعة لداعش في منطقة الوقف تبعد 11 ميلا شمال شرق بعقوبة، واستمر القتال العنيف على مدى أيام بداية من منتصف يوليو، كما تظهر القاعدة من جديد في مناطق أخرى في الأنبار وغرب الموصل، وذلك حسب ما ورد في تقرير تحليلي لشبكة “ريل كلير وورد” الأميركية.
وفي الموصل ذاتها تشير التقارير من المدينة إلى أن الزعماء الكبار في داعش بدأوا يفرون من المدينة. فقد خفف التنظيم قبضته الخانقة على الحياة العامة فسمح للسكان بتدخين السجائر دون العقاب العلني المعتاد، ويقول أعضاء التنظيم للسكان بأنهم (أي الأعضاء) سيغادرون المدينة في النهاية.
إضافة إلى ذلك توقفت اللجنة المسؤولة عن تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، مثلما يفهمونها هم، عن إجبار النساء على تغطية وجوههن بالكامل وتوقفت عن حجز صحون الأقمار الاصطناعية. وفي الموصل يقال إن كبار الزعماء غادروا إلى سوريا في استباق لسقوط المدينة.
ويقول أعضاء داعش لسكان الموصل ذوي الغالبية السنية بأن قوات الحشد الشعبي ستسيطر على المدينة وتذبح السنة مثلما فعلت سابقا في أماكن أخرى. ويحاول داعش حشد السكان خلف رايته السوداء دفاعا عن النفس. فإعادة الاستيلاء على الموصل لن تكون سهلة، بالإضافة إلى أن الطريقة التي سينفذ بها ستكون لها عواقب بعيدة على إمكانية إعادة بروز التنظيمات المتطرفة في وسط العراق في المستقبل القريب. وقد ثبت لدى البعض من المراقبين أن من يقومون بالإغارة على مواقع داعش وتحصيناته هم من تنظيم القاعدة في أغلب الأحيان وليس الحشد الشعبي. وبذلك فإن تنظيم الدولة الإسلامية لا يسعى إلى أن تكون القاعدة هي المسيطر على مجال نفوذه بقدر ما يسعى إلى “إحلال الطوفان الشيعي” من بعده لتركيز دعاية مضادة حتى في غيابه.
تنظيم القاعدة أصبح مثل الجماعة الطفيلية التي تطل كلما تراجع نفوذ داعش في منطقة ما
ويستغل تنظيم القاعدة انحسار التنظيم في العراق كي يكون مادة لمستقبله في العراق بشكل خاص لأن القاعدة بدورها تخسر مجالا كبيرا في سوريا بعد أن أعلن أبومحمد الجولاني انفصاله عن جبهة النصرة التابعة للقاعدة في سوريا وتأسيسه لتنظيم جديد. وبهذا يمكن تفسير الجهود الكبيرة التي يبذلها تنظيم القاعدة في العراق لإعادة تجميع نفسه والتموقع في المدن التي كان يسيطر عليها سابقا والمعروفة لديه خاصة الفلوجة والبعض من مدن محافظة صلاح الدين.
الأكراد يريدون حصة
في 24 يوليو أعلنت وزارة الدفاع العراقية أن حكومة كردستان والبيشمركة ستنسحبان من المناطق المستردة من داعش من أجل جلب الاستقرار لهذه المناطق، لكن حكومة إقليم كردستان ردت بغضب على تصريح بغداد حيث ورد في بيان لها ما يلي “ما فتئت الحرب ضد الارهاب مبدؤنا التوجيهي الذي لا محيد عنه وهي جزء من سياسة الاستقلال لإقليم كردستان. و الانسحاب لا يخص إلا الموصل”.
وأضاف بلاغ عن وزارة البشمركة في أربيل “إذا كان بعض الناس في بغداد يعتقدون أن أسلحة البيشمركة للكراء ونحن متوقفون على إذنهم فهم مخطئون. مضت أكثر من سنة منذ أن قالت البيشمركة بأنها متأهبة لكن القوات العراقية لم تكن جاهزة”.
هذا الرصد الذي ورد في تحليل مارينا أوتاواي في شبكة “ريل كلير وورد” يؤكد أن للأكراد أيضا طمعا في ما سيتركه تنظيم الدولة الإسلامية من أراض بعد أن تأكد انسحابه من بعض المناطق التي كان يسيطر عليها تحت وقع الهجمات المكثفة للبيشمركة المدعومة من بعض القوى الدولية كالولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا.
الشيخ نزهان الصخر شيخ عشيرة اللهيبي وهو يتوسط رجاله في منطقة الحاج علي جنوب الموصل مؤكدا أن المجموعات السنية يجب أن تكون على رأس المحررين للموصل كي لا يتم تقسيمها من قبل الميليشيات الشيعية.
وتحت الضغط أصدرت وزارة الدفاع في بغداد بلاغا يذكر بأن مذكرة التفاهم الموقعة بين حكومة إقليم كردستان والولايات المتحدة تقول بأن على البيشمركة الانسحاب من المناطق التي استرجعتها من داعش. ويبدو أن مذكرة التفاهم الموقعة في 13 يوليو الماضي غامضة في تحديد الأراضي التي يجب على البيشمركة إخلاؤها، وحسب وزارة الدفاع العراقية فهي كل المناطق خارج الحدود المعروفة لكردستان، بالرغم من أن هذه الحدود متنازع عليها، وحسب حكومة إقليم كردستان يهم البند الخاص بالانسحاب الموصل والأماكن المحيطة بها فقط.
وتؤكد تقارير صحافية أن الأحزاب في العراق لم تتمكن طيلة 13 عاما من اختراق التحالف المتين بين القطبين الرئيسيين للأكراد؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة رئيس إقليم شمال العراق مسعود بارزاني) والاتحاد الوطني الكردستاني، رغم الأزمات التي تعرضت لها البلاد. وكان أعضاء الحزبين موحدين في البرلمان الاتحادي، إلى جانب وحدة موقف الوزراء الذين يمثلون الإقليم الشمالي في بغداد، حسب تصريح عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني شيرزاد قاسم.
وما إن حل شهر يونيو 2014 حتى بدأ تأثير داعش السياسي على العلاقة بينهما. وأوضح قاسم ذلك قائلا إن “دخول التنظيم إلى العراق في مناطق متنازع عليها في الدستور بشمال العراق، ومواجهته من قبل القوات التابعة للاتحاد الوطني في جلولاء بديالى ومدينة كركوك وأمرلي في صلاح الدين، وكذلك المواجهات التي حدثت بين قوات الحزب الديمقراطي في أربيل ومخمور قرب الموصل ومناطق أخرى، دخلت معها أطراف خارجية أججت الصراع بين الحزبين لضرب التحالف المتين بينهما”.
الخلافات تأججت أكثر مع البدء بتزويد دول غربية الأكراد بالسلاح لمحاربة داعش، فأعلن قادة أحزاب معارضتهم لتوزيع الأسلحة من قبل رئيس إقليم شمال العراق، قائلين إن الأخير حرم قوات البيشمركة في السليمانية (تابعة للاتحاد الوطني الكردستاني) من السلاح والذخيرة، وحصره بمقاتلي البارتي (مقاتلو البيشمركة التابعين لحزب بارزاني)، بحسب النائب عن الاتحاد الوطني، عبد الباري زيباري.
خلاصة الأمر أن الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية تشكل بوابة للدخول في تقسيم جغراسياسي جديد داخل العراق، يقضم فيه الأكراد أراضي جديدة لتوسيع مجالهم الضيق شمالا ويتمكن من خلاله تنظيم القاعدة من العودة إلى مهامه القديمة في التفجير والميليشيات الشيعية تستعمل انسحاب داعش كمادة انتخابية دسمة، ولا يوجد في العراق إلى الآن من يبحث عن وحدته واستقراره.
صحيفة العرب