عند كل محطة سياسية أو حدث مهم ينقسم المشهد في لبنان والمنطقة بين مؤيد ومعارض في إمتداد للصراع الإقليمي بين السعودية وإيران.
كانت الأزمة السورية مفصلا مهما في هذا الإنقسام العامودي بل حتى الأفقي ليؤسس لصراعات طائفية بدأت تتجذر في وعي الناس على حساب المواطنية وحدود الكيان.
أزمة الجمهورين:
أزمة جمهور الممانعة لا تختلف كثيرا عن أزمة الجمهور الآخر المعارض فكلاهما يغلبان لغة المشاعر الطائفية والسياسية على حساب العقلانية في التحليل والإستنتاج لكن ما يختلف بين الجمهورين هو مدى الإستسلام الذي يبديه جمهور المقاومة والممانعة لقرارات قياداتهم ومحاولة تبريريها وهذا لا تجده كثيرا مبالغا فيه عند الجمهور الآخر.
وأصدق مثال على ذلك هو ردة فعل جمهور المستقبل السلبية إتجاه سعد الحريري والإنتقادات السلبية واللاذعة التي وجهوها له سواء عند تشكيل آخر حكومة أو عند الإنتخابات البلدية الأخيرة والتي سجلت تمردا وزعلا من قبل هذا الجمهور ترجمه أشرف ريفي نصرا في طرابلس.
فلو أردنا تلخيص الأزمة المشتركة بشكل عام بين الجمهورين ولو بشكل مختلف نسبيا هو الإقتناع بكل ما يرد عن قيادتهما ومحورهما بشكل انسيابي دون التمهل للحكم على الأمور بطريقة موضوعية.
أسباب أزمة جمهور الممانعة:
عندما نتحدث عن الممانعة نشمل معها جمهور المقاومة أيضا أو بمعنى آخر محبي محور إيران في المنطقة.
ولأزمة الخداع هذه أسبابها وهي النخبة الإعلامية التي يمتلكها هذا المحور والذي ينشط في تحويل الخسارة إلى نصر بحيث تجد لوهلة أن هذا المحور لا يهزم ولا يتلقى خسائر فقط في إعلامهم وبعيدا عن ما يحصل على أرض الواقع.
إجتهد عرابو هذا المحور بخلق وعي جماعي في نفوس جماهيره قائم على معادلة إما النصر أو الشهادة ولا يوجد إشارة للهزيمة، لذلك فأي معلومة أو حدث يتعاطى معه هذا الجمهور يكون مسبقا حاكما عليه إما بالفوز أو الشهادة والتي هي تجلي آخر لمعاني النصر، أما الميدان وبلغة الموضوعية والعلمية تكون هزيمة أو نصر.
بل يذهب خيال معلقي وقنوات وإعلاميي الممانعة لتصوير إنتصارات وفبركة أخبار ليس لها أساسا من الصحة ما خلق وهما أخذ بعدا إفتراضيا قائم على مبادىء المؤامرة والمظلومية ومعارك الوجود.
هذه المشكلة زادت عند بدء الأزمة السورية، فطوال سنتين تقريبا من أول الأزمة كانت قنوات الممانعة تصور أن المعارضة لا تسيطر على أي بقعة جغرافية في سوريا وأنه لا يوجد مظاهرات، وفجأة يدخل حزب الله المعركة السورية ويبدأ بإستعادة المناطق الجغرافية والتي إلى اليوم لم تنته وإعترف لاحقا بشار الأسد بوجود مظاهرات في بدء الأزمة.
طبعا، جمهور الممانعة صدق الروايتين ولم ينتبه للتناقض العجيب الموجود فيهما بل يمكن القول أنه لا يريد أن ينتبه لأن سنوات من عمليات بناء الوعي الجماعي لهذا الجمهور حولته إلى جمهور لا يحب سماع سوى أخبار الإنتصارات أما أخبار الهزيمة فهو يأولها على ذوقه.
تكثر الأمثال في هذا المجال، فعندما يستعيد محور الممانعة السيطرة على منطقة في سوريا تصبح إستراتيجية وعندما تستردها المعارضة تتحول المنطقة إلى شيء غير مهم أو " ثغرة" كما روج لما حصل في أحداث الراموسة الأخيرة في حلب.
أضف إلى ما ذكر من أسباب وهي نقطة مهمة لا بد من الإشارة إليها وهي أن حزب الله خاض حربا نفسية كانت صادقة مع العدو الصهيوني وكان صدقه في هذه الحرب أحد أهم أسباب قوته لكن الحزب بعد أن دخل في الحرب السورية زاد إحتكاكه بمؤسسات حزب البعث الإعلامية.
وببساطة تحول الجهد الإعلامي والسياسة الإعلامية من مدرسة المقاومة الواقعية مع العدو الإسرائيلي إلى عالم مدرسة البعث التي تؤلف وتفبرك أخبار وأحداث لا وجود لها.
لذلك تجد كثر من إعلاميي الممانعة هم خريجي مدرسة البعث القائمة على الكذب والتضليل والفبركات، فهي تصور الكون أنه خاضع لها وأي إنتصار في هذا العالم أو حدث هو مكسب لها.
فعند وقوع الإنقلاب التركي كانت تبشر بهزيمة أردوغان وأن ما يجري سببه الأحداث السورية وبعد فشل الإنقلاب نفس المدرسة وتلاميذها روجوا أن الإنقلاب صنيعة يد أردوغان، والفرق بين الروايتين أقل من 24 ساعة، والجمهور الممانع كعادته يصدق ويساهم في نشر هذه الأخبار.
مدرسة البعث الإعلامية تتعاطى مع جمهورها على أنه " غنم" بمعنى ما نخبره به يصدقه حتى لو كان الخبر كمثل أن جد بوتين قاتل مع الحسين، ولكن اليوم وبعد لقاء بوتين بأردوغان أصبح بوتين يهودي ويروجون لرواية أنه كان من صغره يسكن في حي يهودي ومتأثر بهم، وطبعا جمهور الممانعة سيصدق ويدافع عن هذه الرواية، فقبلها بوتين بنظرهم كان حليف المقاومة والممانعة أما اليوم فأصبح طرف يؤمن مصالحه ولا بأس بالإستفادة منه.
كم من التناقض الهائل يمس ليس بذكاء الإنسان بل بكرامته وعنفوانه.
عندما يصبح ملكا أكثر من الملك:
أزمة الإيمان الأعمى بالنصر ستنعكس لاحقا على من أسسوا هذا الإيمان وأعطوه هذه الأبعاد الغير منطقية.
فهذا الإيمان الأعمى أحرج حزب الله بعد إغتيال جهاد مغنية في سوريا وإضطره للرد بطريقة غير مدروسة وهذا ما أظهرته نتائج العملية مقارنة بحجم الهدف التي قضت عليه إسرائيل.
فحينها نظمت حملات واسعة من قبل هذا الجمهور للمطالبة بالرد فورا وكان حزب الله مضطرا لإمتصاص هذه الحملات فكان الرد سريعا ولو بنتائج غير مدروسة ومثمرة.
حادثة أخرى عبر عنها السيد حسن نصر الله نفسه من مبالغة جمهوره، وكانت عند تشكيل حكومة تمام سلام وحينها نظمت حملة للتعبير عن إنزعاج هذا الجمهور من تشكيلة هذه الحكومة والموجودين فيها، فأطل نصر الله شارحا حيثيات تشكيلة الحكومة وقال متوجها لجمهوره لإسكاته:" ليس كل شيء يمشي على ذوقكم".
كانت العبارة سريعة ولم ينتبه لها الجمهور ولكنها كانت دلالة واضحة لحزب الله بأن يعيد تقييم سياسته الإعلامية وهذا ما لم يحصل إلى الآن.
فعندما تخلق في وعي وعقل جمهورك معان غير واقعية ولا تضعهم أمام إحتمال خسارة هنا أو هناك فستواجه جمهور يجتهد أكثر لجعلك تتورط أكثر مستفيدا من إعلاميين يمارسون حربا نفسية خيالية تحولت إلى مادة كوميدية وخصصت لها برامج خاصة من الطرف الآخر لكارثية ومستوى الأخبار التي تقدم والتي تشبه الأساطير فأظهرت هذه البرامج حجم التناقض الموجود في خطاب الممانعة والمقاومة وساهمت أيضا في خلق رأي عام معارض داخل محور الممانعة بدأ ينتقد ويعلي الصوت من هؤلاء الإعلاميين.
البوط العسكري رمز النصر:
هؤلاء الإعلاميون معظمهم لا يملكون مقومات ثقافية وأخلاقية وسياسية، فربطوا النصر النهائي بعبارة يختموها في أحاديثهم وطلاتهم الإعلامية وهي أن النصر مرتبط بالطاعة العمياء للبوط العسكري وتحويل هذا البوط إلى رمز ثقافي لهذا المحور.
هؤلاء ساهموا في خلق ثقافة دونية إعلامية بعيدة عن أخلاقيات المهنة.
الخطر المحدق:
لا بد من إعادة تأهيل الكوادر الإعلامية لهذا المحور أو إقالة الموجودين وإستبدالهم بجدد، فالخطر على جمهور طويل وعريض أصبح محدق ويهدد الجميع.
الحقيقة دائما صعبة ولكنها تبقى صادقة أما الكلام الفارغ فلا جمرك عليه وهو بيع للوهم.
وفرق كبير بين تقديم الحقيقة وبيع الوهم، الأولى تبني مجتمع أما الثانية فتهدم الهيكل على رؤوس الجميع