ليسَ هناك في النظام البرلماني اللبناني أيّ رئاسة من الرئاسات الثلاث تنتخب بالاقتراع العام.

ثلاثتها تنتخب (مع صيغة استشارات ملزمة فيما يتعلق بتسمية رئيس الوزراء) من المجلس النيابي الذي هو "كل البرلمان"، منذ الغاء المنتدب الفرنسي لمجلس الشيوخ سريعاً بعد اعتماده في الصيغة الأولى لدستور البلاد. المجلس النيابي وحده هو الذي ينتخب من طريق الاقتراع العام المباشر في هذه التركيبة الدستورية. عليه بعد ذلك أن يعكّز على وكالته غير المشروطة عن الهيئات الناخبة كي يختار من يشغل المناصب الرئاسية الثلاثة، أو التي كرّست بعد الطائف كرئاسات ثلاث. 

بما أنّ أياً من الرئاسات الثلاث لا تنتخب مباشرة من الشعب وكلّها تنتخب "من نفس المصدر البرلماني" صارت هذه الرئاسات والى حد كبير "تشبه بعضها بعضاً" من ناحية مصدر شرعيتها، مع كونها في الوقت نفسه مختلفة ومتفاوتة من حيث الصلاحيات، رغم الابهام الحاصل نصاً وتطبيقاً على امتداد التاريخ الدستوري اللبناني وخصوصاً بعد الحرب، وليس دائماً، أو ليس أبداً، من جملة "الغموض الدستوري الخلاق". 

هل يعني ذلك أن الرئاسات ومعايير اختيار الأشخاص لها هي تماماً بمعزل عن متطلبات هالة شعبية يتفاضل بها مرشّح على آخر؟ لا يمكن قول ذلك. في الوقت نفسه، الشعبية وحدها غير كافية، ما دام النظام برلمانياً، والرئاسات تنتخب من البرلمان، وما دامت الرئاسات بهذا المعنى من مصدر شرعية واحد، الأمر الذي يحد من تسلسلها الهرميّ، ويجعله في كثير من الأحيان بروتوكولياً فقط. 

لكن هناك قاعدة لا بد أن يصار الى بلورتها وتشكيل اجماع حولها. وهي أنَّه اذا كان بحكم المتعذر اشتراط أكثرية شعبية تؤيد المرشح لاحدى الرئاسات، في طائفته - المذهب، أو في طائفته الأوسع، أو على المستوى الوطني، يمكن موازنة الأمر من الناحية المقابلة، وتحبيذ أن يكون تولي احدى الرئاسات غير مواجه بأكثرية شعبية مسيحية، وغير مواجهة بأكثرية شعبية اسلامية، سنية أو شيعية. مثل هذه البلورة أساسية اذا اردنا تقليل مستوى الاعتباطية المرتفع كثيراً في تركيبتنا. 

اذا كانت الأكثرية الشعبية المسيحية في مكان والأكثرية الشعبية الاسلامية في مكان ينبغي امتلاك شجاعة المصارحة بأنّ مرشّحاً يتمكّن من تفادي تشكّل مناخات شعبية واسعة ضده في الطوائف الكبرى هو أفضل من مرشّح لا يتمكّن من تفادي الاستقطاب الشعبي الحاد حوله، ايجاباً وسلباً. 

الشعبية مسألة حيوية جداً ولا يمكن استبعادها اذاً عن جادة الرئاسات الثلاث، انما لا يمكن الركون اليها خبط لصق، لها شروطها، والمعادلة الأكثر عقلانية هي تفضيل المرشح القادر على الحيلولة دون تشكل شعبية ضده في أي طائفة، على المرشح المستقوي بشعبية بعينها، انما لاستثارة وتوليد شعبية مضادة له. فهذا هو الفارق بين انتخاب الرؤساء من البرلمان وبين انتخابهم بالاقتراع العام. في الاقتراع العام، من الطبيعي، بل هو عين المطلوب، ان يتقدم مرشح لتشكيل حالة شعبية حوله في مقابل حالة شعبية مضادة له، ويجري التحاكم للصناديق الشعبية. أما حين يقتصر الاحتكام للصناديق على النواب، فان قيام حالة شعبية اعتراضية على مرشح لرئاسة ينقص من مناسبة هذا المرشح للمنصب، وليس العكس. 

تبقى مسألة غير ثانوية. الرئاسات الثلاث منتخبة من نفس المصدر، لكن رئاسة الجمهورية التي هي رئاسة الدولة، والرئاسة "غير التنفيذية" للسلطة التنفيذية، ان صحّ التعبير، هي رئاسة محدّدة بست سنوات، في مقابل رئاسة غير محدّدة بأجل في الحالتين الأخريين، في مقابل تعاقب ثلاثة رؤساء جمهورية وسبعة رؤساء وزارة. هذا "التفاوت الزمني" اشكاليّ للغاية. الديموقراطيات حتى تلك التي تحصر الاقتراع العام الى اقصى حد والتي تبتذله بقانون الانتخاب وبعدم احترام مواقيت الانتخاب عليها تأمين قاعدة التداول على السلطة، عدم حصول التداول في رئاسة بعينها ليس مسألة شخصية وليست محض صدفة. هي مسألة يفترض أن تنال قسطها من المداولة. فكما ان القسم الاكبر من الازمة الدستورية الحالية ترجع الى الشغور منذ سنتين وبضعة اشهر في سدة رئيس الدولة، هناك قسم آخر من الأزمة مرتبط بالتفاوت الزمني بين الرئاسات، وخصوصاً تلك التشريعية.

 


وسام سعادة | المستقبل