انخرط الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان بودّ متبادل في لقائهما في سان بطرسبورغ أمس، في رهان فتح صفحة جديدة في العلاقات بين بلديهما أحسن مما كانت عليه قبل الوقيعة التي تسببت بها حادثة «السوخوي الروسية»، فركزا على ما يفيدهما من مجالات التعاون خصوصاً الاقتصادي، و»حيّدا» الإشكال السوري بينهما بتأكيدهما الخلاف والنية في الوقت نفسه على تجاوزه الى «هدف مشترك» بدءاً بـ«لقاء منفصل«، بينهما بحضور وزيري الخارجية ومسؤولي الاستخبارات.

حماسة اردوغان تجاه روسيا، التي عزاها الى أن بوتين كان من أوائل الذين اتصلوا به بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، كانت واضحة المغزى أكثر تجاه «الشريك الأطلسي»، إذ وقّت وزير العدل التركي بكر بوزداك وصول رئيسه الى سان بطرسبورغ لـ«يحذر» واشنطن من التضحية بالعلاقات مع بلاده من أجل فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة.

فقد تعهد الرئيس الروسي ونظيره التركي بإعادة العلاقات بين بلديهما الى سابق عهدها، بعد أول لقاء بينهما منذ إسقاط أنقرة مقاتلة روسية في تشرين الثاني الماضي. وهذه أول زيارة يقوم بها اردوغان الى الخارج منذ محاولة الانقلاب الفاشل في 15 تموز الماضي وما تلاها من حملة تطهير غير مسبوقة أثارت انتقادات شديدة من الغربيين الذين توترت علاقاتهم كثيراً بتركيا.

وفي تصريح للصحافيين في مؤتمر صحافي مشترك بعد لقائهما في سانت بطرسبرغ، قال بوتين «لقد مررنا بلحظات معقدة جداً في العلاقات بين بلدينا ونرغب بشدة، وأشعر أن أصدقاءنا الأتراك يرغبون كذلك، في التغلب على الصعوبات». 

وأكد بوتين أن إعادة العلاقات التجارية بين البلدين الى مستواها السابق سيستغرق «بعض الوقت» ويتطلب «العمل الشاق»، مؤكداً أن بلاده تتطلع الى إلغاء سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على أنقرة، إلا أن الجانبين قالا إنهما يرغبان في إعادة العمل في مشاريع طاقة كبرى تضررت بسبب الأزمة. 

وقال اردوغان إنه يأمل أن تصبح العلاقات الروسية - التركية «أقوى»، مؤكداً أن دعم بوتين لأنقرة بعد المحاولة الانقلابية كان مهماً. وأوضح «سنعيد علاقاتنا الى مستواها القديم وأكثر من ذلك، والجانبان مصممان على أن تكون لديهما الإرادة الضرورية» للقيام بذلك. 

وقال بوتين «الحياة تتغير بسرعة»، مضيفاً أن العقوبات الروسية المفروضة على تركيا بشأن إسقاط الطائرة قد ترفع تدريجياً.

وأوضح أن إصلاح العلاقات مع تركيا سيُعزز الاستقرار في «العالم كله»، وشدد على تأييده لطريقة تعامل اردوغان مع محاولة الانقلاب الفاشلة، وأشار إلى أنه كان من أول الزعماء الذين اتصلوا به لإبداء الدعم. 

وتابع الرئيس الروسي أنه يأمل أن تستعيد أنقرة النظام بشكل كامل، مضيفاً «أريد أن أقول مرة أخرى إنه من موقفنا المستند إلى المبادئ هو أننا دائماً وبشكل قاطع ضد أي محاولات بإجراءات غير دستورية«.

وأضاف «أريد أن أعرب عن الأمل في أن يتغلب الشعب التركي في ظل قيادتكم على هذه المشكلة (ما بعد الانقلاب) وأن يجري استعادة النظام والشرعية الدستورية«.

وكانت العلاقات بين موسكو وأنقرة تدهورت بعد إسقاط الطائرة الحربية الروسية عند الحدود السورية، ما حمل روسيا على فرض عقوبات اقتصادية ضد تركيا وشن حرب كلامية قاسية على اردوغان، ولكن وفي تغيير مفاجئ في حزيران الماضي قبل بوتين رسالة من اردوغان تقدم فيها باعتذاره على حادث إسقاط الطائرة.

وقام إثر ذلك بإلغاء الحظر على توجه الروس في رحلات الى تركيا، وأشار الى أن موسكو ستنهي الإجراءات ضد واردات الغذاء التركية وشركات البناء.

وتضرر قطاع السياحة التركي الذي يعتبر أساسياً في اقتصاد هذا البلد، من جراء مقاطعة السياح الروس الذين تراجعت أعدادهم بنسبة 93 في المئة في حزيران بالمقارنة مع الشهر نفسه من العام 2015.

والآن وعقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز الماضي، تنتشر مخاوف في العواصم الغربية من أن تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، تقترب بشكل أكبر من موسكو، وأعرب اردوغان بصراحة عن خيبة أمله من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. 

وكان بوتين أحد أوائل المسؤولين الأجانب الكبار الذين اتصلوا هاتفياً باردوغان لإدانة انقلاب 15 تموز، ولم يُعرب عن تأثره على غرار المسؤولين الأوروبيين من عمليات القمع التي تلته.

وأكد بوتين الثلاثاء أن روسيا «تعارض بحزم أي محاولة للتحرك بطريقة غير دستورية»، معرباً عن الأمل في أن «تتمكن تركيا من تجاوز هذه المشكلة وأن يعود القانون والنظام الدستوري».

وتاريخياً لم تكن العلاقات بين تركيا وروسيا، القوتان اللتان تسعيان الى فرض نفوذهما في منطقة البحر الأسود الاستراتيجية ومنطقة الشرق الأوسط، خالية من التوترات. 

ولكن قبل أزمة إسقاط الطائرة الروسية تمكنت موسكو وأنقرة من تجنب أن يضر الخلاف بينهما حول سوريا وأوكرانيا بالتعاون الاستراتيجي حول قضايا من بينها خط أنابيب الغاز «تركستريم» الذي يصل الى أوروبا، ومحطة الطاقة النووية التي تبنيها روسيا في تركيا. 

وبعد الأزمة جُمد هذان المشروعان وانخفض مستوى التجارة بين البلدين حيث تفيد أرقام أعلنها الكرملين أن المبادلات التجارية بين البلدين تراجعت بنسبة 43% الى 6,1 مليارات دولار (5،5 مليارات يورو) بين كانون الثاني وأيار الماضيين.

والآن ومع معاناة روسيا من أزمة اقتصادية سببها العقوبات الغربية بسبب أوكرانيا وانخفاض أسعار النفط إضافة الى التوقعات الاقتصادية الضعيفة بالنسبة لتركيا، يرغب الرجلان في إعادة العلاقات التجارية بينهما مرة أخرى. وقال اردوغان إنه يريد الآن أن ينفذ مشروع تركستريم «بالسرعة الممكنة»، بينما قال بوتين إن العمل في المشروع قد يبدأ «في المستقبل القريب»، وإن استعادة العلاقات التجارية بين البلدين ستتم «على مراحل».

وأكد اردوغان كذلك أن الجانبين يهدفان الى أن يصل حجم التجارة بينهما الى 100 مليار دولار بحلول 2024، إلا أن وزير الاقتصاد الروسي اليكسي يوليوكاييف صرح للإعلام أن إعادة العلاقات التجارية بين البلدين الى مستوى ما قبل الأزمة قد يستغرق عامين. 

وخلال لقاء مع رجال أعمال شدد الرئيس الروسي مساء الثلاثاء على أن إعادة العلاقات التجارية بين البلدين الى ما كانت عليه سابقاً ستتم «على مراحل».

ولم يتم الثلاثاء التوقيع على أي عقد، والحظر الروسي على شراء فاكهة وخضار تركية لا يزال قائماً مع إمكانية رفعه بحلول نهاية السنة الحالية، حسب ما قال مسؤولون روس.

وتجنب الزعيمان التطرق الى النزاع السوري خلال المؤتمر الصحافي، إلا أن كليهما قالا إنهما سيبحثان هذا النزاع بعد المؤتمر الصحافي، في حين أكد بوتين أن الطرفين ملتزمان بالتوصل إلى حل سلمي. 

وتشن روسيا غارات جوية دعماً لبشار الأسد الذي تعارضه تركيا بشدة. وأكد اردوغان في مقابلة مع الإعلام الروسي قبل المحادثات أن على الأسد التنحي، وهو الموقف الذي يعارضه بوتين.

وقال مسؤول تركي رفيع إن لقاءات اردوغان خلال زيارته الحالية على رأس وفد رفيع إلى روسيا تسير بشكل «إيجابي جداً«. وأضاف أن هناك تطابقاً في الآراء وتصميماً بين الجانبين التركي والروسي، خلال الاجتماع الثنائي لزعيما البلدين والاجتماع على مستوى الوفود، لعودة العلاقات بين البلدين إلى مستوى ما قبل تشرين الثاني 2015 وإلى أبعد من ذلك