تسللت الجلسة الثالثة والاربعون لانتخاب رئيس جديد للجمهورية من خلف النصاب السياسي المفقود، من دون أن يشعر بها أحد، وحجزت مكاناً لها في صف الجلسات الفاشلة في إتمام هذا الاستحقاق. ولعلّ السِمة الجامعة بين هذه الجلسة وكل سابقاتها، انها أكدت بما لا يقبل الشك انّ الملف الرئاسي ما زال «طبخة بحص» عَصيّة على النضوج. إنما ما مَيّز التجربة الفاشلة، أمس، أنها قطعت حبل التوقعات التي سَوّقها منجّمو السياسة في الآونة الاخيرة، وأسقطت كل الرهانات عليها بأنها قد تشكّل «القابلة القانونية» لتوليد الرئيس العتيد.
بَدا جلياً امس، انّ كل تلك الرهانات، مُضافاً اليها رياح التفاؤل التي عصفت بالاجواء الرئاسية في الآونة الأخيرة، لم تكن اكثر من رهان على سراب، خصوصاً انّ القوى السياسية محبوسة في اختلافاتها وتناقضاتها لا بل عجزها عن بلوغ مدار التوافق على رئيس وإنهاء حالة الفراغ التي تضرب الرئاسة الاولى.

والى موعد جديد في السابع من ايلول المقبل، رحّل رئيس مجلس النواب نبيه بري الجلسة الانتخابية، ويحدوه الامل في أن يكون ايلول بانتخاب رئيس الجمهورية «مَبلول»، الّا انّ ذلك يبقى رهناً بالتقاء الارادات الداخلية، ولَو لمرة واحدة، على وَضع حد للوضع الشاذ الذي يعيشه البلد. ولكنّ هذا يتطلّب معجزة تضرب الأمزجة السياسية، وتفتح مغارة الحلول على مصراعيها.

بري: الرئاسة أولاً

في هذا الجو، اكد بري أمام زوّاره انّ الاستحقاق الرئاسي يبقى الاساس، مشيراً الى انه ما يزال يأمل على طاولة الحوار من ان تحقق الاختراقات المطلوبة. وقال: «لقد قمتُ بأمور كثيرة، وسأقوم بما عليّ في الموضوع الرئاسي الذي كما قلت سأشتغل عليه ليلاً ونهاراً».

ولفت بري الى انه قدّم للمتحاورين في الجلسات الحوارية الاخيرة «تفسيراً لموضوع جدول الاعمال، وأكدتُ انّ ايّ أمر نتّفق عليه لن ينفذ قبل انتخاب رئيس الجمهورية الذي يبقى الاولوية.

وقلتُ لهم انّ علينا ان نمهّد لهذا الانتخاب بالاتفاق على القضايا التي يتضمنها جدول الاعمال، ولن نقدم ايّ بند على الاستحقاق الرئاسي. لكن مع الأسف إنّ البعض يوافق على امر، ثم ينبري بالعودة الى طروحاته السابقة، بما يعطي دليلاً انّ ما يحصل في الجلسة وخارجها ليس سوى عملية مزايدة يمارسها البعض لا أكثر ولا أقل».

واشار بري الى انه ما زال ينتظر ان يتلقّى من اطراف الحوار أسماء ممثليهم الى لجنة إنشاء مجلس الشيوخ، لافتاً الى انّ البحث على طاولة الحوار لم يتطرّق الى هوية رئيس هذه المؤسسة التي اذا ما أنشئت فستكون سلطة مستقلة عن السلطة التشريعية.

عون: لا كلام

ومع ترحيل الجلسة الانتخابية الى ايلول المقبل، تشير اجواء الرابية الى استعدادات لمواكبة هادئة للتطورات اللاحقة، وخصوصاً تلك المرتبطة بالاستحقاق الرئاسي.

وفي هذه الاجواء، قرر رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون ان يستمر بسياسة الصمت، واوضحت مصادر الرابية لـ»الجمهورية» انّ «الجنرال سيظلّ صامتاً وهو لا يرى لزوماً للكلام الآن، فقد تكلم كثيراً، وقال ما يجب ان يقوله، لكن الأصمّ، هو من يرفض ان يسمع، واذا استطاعوا ان يتجاوزوه فليجرّبوا».

وأوضحت المصادر ان لا علاقة لهذا الصمت بقرارات تيار «المستقبل»، «يِصطِفلوا فيها»، واذا استطاعوا انتخاب رئيس جمهورية ليتفضّلوا».
واكدت المصادر انّ العلاقة بين الرابية وبنشعي مقطوعة، الّا انها نَفت ان تكون العلاقة متوترة مع الرئيس سعد الحريري، مشيرة الى «انّ البعض في تيار «المستقبل» يسعى الى نَسف الجوّ الإيجابي الذي شاع اخيراً، لكنّ الرئيس الحريري لم يقل شيئاً بعد، والاتصالات معه لا تزال مستمرة عبر الدكتور غطاس الخوري والسيد نادر الحريري». وأملت مصادر الرابية في «الّا يستمع الحريري الى الخارج بل الى مصلحة لبنان».

وإذ اشارت الى أننا «تأخرنا كثيراً في انتخاب الرئيس وكان يجب إنجاز الاستحقاق منذ سنتين ونصف السنة»، أكدت في الوقت ذاته «الاستمرار في مقاطعة الجلسات الانتخابية»، مجددة رفض وصول رئيس «كيفما كان».

وقالت: «لنا الشرف في مقاطعة الانتخاب اذا كانوا يريدون إيصال ايّ مرشّح كان، وما نفعله ليس لمصلحة «التيار الوطني الحر» بل لإعطاء ثقة للمسيحيين في الشرق ولبنان وللبنانيين جميعاً بأننا انتخبنا رئيساً لم يرغمنا أحد على انتخابه ولم يُفرض علينا فرضاً من الخارج، بل هو رئيس صنع في لبنان».

ونَوّهت المصادر بمواقف النائب وليد جنبلاط «الذي يقرأ المرحلة بدقة ويدرك مصلحة البلد»، وأبدَت اطمئنانها الى موقف «حزب الله» الداعم ترشيح عون، وقالت: «هو الحزب الوحيد الذي يمسك كلمته، ويا ليت الجميع مثله».

«القوات»: إلتزام بعون

وفي السياق الرئاسي، كان لافتاً بالأمس ما قاله رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع لصحيفة «الرياض» السعودية، حيث أشار الى «اننا نفتّش عن حلّ للأزمة القائمة، ليس لأننا نؤيّد العماد ميشال عون، بل لأننا نريد تسيير المؤسسات اللبنانية»، معتبراً انّ «أيّ اختراق رئاسي، مهما يَكن الشخص، سيكون جيّداً لأنه لا يوجد أسوأ من الفراغ ونتائجه».

بَدا كلام جعجع «مهما يَكن الشخص»، حَمّال أوجه، اذ قرأ مراقبون في طيّاته تخفيفاً من صلابة الالتزام القواتي بعون، واستعداداً لقبول مرشحين آخرين لرئاسة الجمهورية.

الّا انّ مصدراً مسؤولاً في «القوات» قال لـ«الجمهورية» انّ «القوات» تؤيّد العماد عون لرئاسة الجمهورية، و»الموضوع لا يتعلق بالشخص فحسب، إنما برئاسة الجمهورية كمؤسسة، والمعطى الأساسي الذي يفرض نفسه في هذا الاستحقاق هو العماد عون ولا أحد سواه، لأنه يحظى من جهة بتأييد «حزب الله» على رغم انّ الحزب ما يزال يناور في ملف الرئاسة، ويحظى من جهة ثانية بتأييد «القوات».

أضاف المصدر المسؤول: «الموضوع سهل جداً، إذ يمكن لـ»حزب الله» أن يطلب من كل حلفائه النزول الى البرلمان لانتخاب العماد عون، فيصبح رئيساً على الفور، بين اصوات الحزب معطوفة على اصوات «القوات» وعلى اصوات «اللقاء الديموقراطي» برئاسة النائب وليد جنبلاط.

وتابع المصدر: «امّا ما هو مطلوب من الرئيس سعد الحريري فهو غير منطقي، لأنّ الحريري ليس حليفاً لعون، على عكس «حزب الله»، وما يؤمّنه من نصاب وميثاقية قد يكون كافياً لإجراء انتخابات الرئاسة».

«المستقبل»: إلتزام بفرنجية

وعلى ضفّة تيار «المستقبل»، أوضح النائب سمير الجسر لـ«الجمهورية» انّ «العقدة الرئاسية لا تزال على حالها ولا معطيات جديدة إطلاقاً»، وجدّد تَمسّك «المستقبل» بمبادرة الرئيس الحريري ترشيح رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية.

وقال: «لا شيء استجَدّ لحصول اي تغيير، ولا فرنجية انسحب او أعلن انه لن يكمل في السباق الرئاسي. وكذلك لم يقدّم احد طرحاً آخر ليجد قبولاً. فلا جديد والوضع كله على حاله، ولا سبب استجدّ لكي نقول إنه حصل تبديل».

ونفى الجسر حصول أي تصويت في اجتماع كتلة «المستقبل»، وقال: «انّ الرئيس الحريري قدّم في الاجتماع عرضاً لموضوع رئاسة الجمهورية منذ اليوم الاول للشغور حتى الآن بشكل متسلسل ومتماسك وموضوعي ودقيق، وذلك بعد الطرح الذي أثير في الاعلام في الفترة الاخيرة عن انتخاب الجنرال عون رئيساً في جلسة 8 آب، وحصلت مناقشات وكل طرف أدلى بدلوه وأبدى رأيه في الموضوع الرئاسي وأعطى حجته بطريقة موضوعية صَرف، ولم يحصل أي تصويت.

صحيح انّ البعض لا يمانع وصول العماد عون الى الرئاسة، إنما لم يكن هناك ايّ حماس او قبول لانتخابه رئيساً».
وكشف الجسر، في مجال آخر، انّ الجلسة الحوارية الجديدة بين تيار»المستقبل» و»حزب الله» ستنعقد الثلثاء المقبل في 16 الجاري.

عون لـ«الجمهورية»

الى ذلك، قال عضو «التكتل» النائب آلان عون لـ«الجمهورية»: «من الواضح أنّ هناك حالة ارتباك داخل صفوف تيار «المستقبل» وحول كيفية تعاطيه مع المرحلة المقبلة، وهو يشهد نقاشات جدّية ومفصلية خصوصاً في الملف الرئاسي. والكرة اليوم هي في ملعب «المستقبل» الذي ينتظر عودة الرئيس سعد الحريري من الخارج حيث يتوقّع أن يعقد اجتماعات مهمّة سيحدّد بعدها وجهته السياسية، وتحديداً في موضوع الرئاسة».

اضاف: «الوضع كله معلّق اليوم على تيار «المستقبل»، فكل القوى السياسية أصبحت ثابتة على موقفها بينما كتلة «المستقبل» هي المتحرّك الوحيد في المعادلة السياسية الحالية، فهي تمسك بكل مفاتيح الحلّ. إمّا تأييد العماد عون وإنهاء الشغور الرئاسي، إمّا الإفراج عن قانون انتخابي جديد تجري على أساسه انتخابات نيابية وينبثق عنها مجلس نيابي جديد ينتخب رئيس الجمهورية».

وتابع: «العيون كلها على تيار «المستقبل»، فرحمة بالبلاد والعباد، ألم يحن الوقت لكي يخطو خطوة جريئة تاريخية تضع حدّاً لمأساة اللبنانيين؟»

8 آذار: حذار الفراغ

وقال مصدر قيادي في قوى «8 آذار» لـ«الجمهورية»: «نحن نعلم انّ «حزب الله» يقف مع الجنرال عون. خريطة الحل واضحة ولا تحتاج الى كثير من الاجتهاد، الملف الرئاسي يحتاج الى الرئيس الأقوى، وقانون الانتخاب يحتاج الى القانون الأقوى. فالرئيس الأقوى هو عون والقانون الأقوى هو النسبية، وما عدا ذلك، الفريق الآخر يعانِد الواقعية السياسية ويذهب الى رهانات خاطئة ويواصل سياسة البقاء أسير الموقف السعودي غير المُكترِث لأيّ من الملفات غير ملف اليمن لأنه يتصل بأمنه القومي، امّا الملفات الاخرى النازفة والتي تحترق، سواء في لبنان او سوريا او العراق، فلا يلتفت لحلولها».

ودعا المصدر تيار «المستقبل» الى «أن يقرأ أفق المرحلة جيداً»، معتبرا انه «إذا استمر على هذه الحال فهذا يعني أننا سنقترب من الاستحقاق الانتخابي والبلد في مواجهة احتمالات خطيرة، فالقوى المسيحية لن ترضى بإجراء الانتخابات على اساس قانون الستين والتمديد لم يعد خياراً قائماً، ما يعني انّ احتمال الفراغ هو احتمال وارد، وبالتالي يضع النظام السياسي اللبناني في مهبّ الريح».

آلان عون لـ«الجمهورية»: ألم يحن الوقت لكي يخطو «المستقبل» خطوة جريئة تاريخية تضع حدّاً لمأساة اللبنانيين؟