مرت سنوات عجاف على لبنان بعد توقيع إتفاق الطائف عام 1989 أدخلت البلاد في مرحلة سبات عميق كان عنوانها سيطرة وتحكم كلي مشترك بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية ومن يدور في فلكها من سياسيين بقرار الدولة اللبنانية وتفاصيل الحياة اليومية في البلاد.
لم يكسر هذا الجمود إلا لحظة مصافحة تمت في 4 آب 2001 بين النائب وليد جنبلاط والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير في المختارة لتتوج مصالحة تاريخية بين الدروز والموارنة بالحد الأدنى وتنهي صفحة دموية من تاريخ لبنان الحديث تمثلت بحرب الجبل.
ما قبل المصالحة:
لم تكن المصالحة التاريخية وليدة اللحظة التي تمت بها، بل سبقتها أحداث مهمة كانت تؤشر لمعطيات سياسية جديدة بدأت تظهر على الساحة السياسية اللبنانية.
كان العام 2000 عاما تاريخيا في لبنان ففيه تم تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الإحتلال الصهيوني من قبل المقاومة اللبنانية، وأدى هذا التحرير إلى فتح ملفات قديمة مرتبطة خصوصا بالطائف وبتداعيات الإحتلال الإسرائيلي خصوصا التواجد الأمني والعسكري السوري.
في أيلول 2000 صدر بيان بكركي الشهير الذي دعا فيه إلى إنسحاب القوات السورية من لبنان وبعدها بفترة ألقى النائب وليد جنبلاط كلمة له في المجلس النيابي دعا فيه إلى تطبيق إتفاق الطائف بالكامل وإعادة تموضع للقوات السورية نحو الحدود في البقاع.
هذان الحدثان شكلا ركيزة لمشروع لبناني يدعو لتحرير لبنان من القوات السورية في محاكاة لمشروع التحرير الذي تم في 25 أيار 2000 ضد الإحتلال الإسرائيلي.
نتج عن بيان بكركي حملة أمنية وإعلامية وسياسية كبيرة من الجهاز الأمني اللبناني السوري ضد الصرح البطريركي، ومن غمار هذا الصراع تم الإعلان عن لقاء قرنة شهوان والمنبر الديمقراطي في خطوة لتفعيل العمل السياسي ضد الوصاية السورية.
أراد وليد جنبلاط الزعيم الخفي لهذه التحركات جميعها تتويج هذه الممارسات بحدث تاريخي يزلزل المشهد السياسي اللبناني، فمهد لذلك بحزيران 2001 بدعوة من منظمة الشباب التقدمي لشباب وشابات لبنان للقاء في بعقلين، وحضر أكثر من 600 شخص من شباب وشابات الأحزاب والمنظمات اللبنانية المعارضة آنذاك للوصاية السورية.
كان هذا اللقاء آخر الخطوات التمهيدية لنضج المصالحة التاريخية، مصالحة كان عنوانها إغلاق صفحة حرب الجبل بين الموارنة والدروز وفتح صفحة جديدة أرادها عرابوها أن تكون بيان رقم 1 لإنطلاق الحركة الإستقلالية ضد التواجد السوري في لبنان.
كانت رحلة البطريرك صفير من الشويفات الى قرى وبلدات الجبل وصولا الى المختارة كفيلة بإغلاق تاريخ بأكمله لفتح حاضر جديد نعيش تداعياته اليوم.
لم تكن مصافحة صفير لجنبلاط لحظة عابرة بل تكريس لمشروع كبير وضع لبنان أمام إستحقاقات مصيرية.
ما بعد المصالحة:
كانت ردة فعل الجهاز الامني السوري اللبناني المشترك سريعا على أحداث مصالحة الجبل، فحصلت أحداث 7 و 9 آب أمام مجلس العدل وحصلت حملة واسعة من الإعتقالات والتخوين والتشهير والترهيب بالمصالحة وروادها وتفاعلت الأمور بعدما تشكلت معارضة لإقرار قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي كان رئيس الجمهورية حينها إميل لحود تمريره.
تداعيات المصالحة لم تقف هنا بل جوبهت بتجمع المعارضة اللبنانية بلقاء الكارلتون ضم أعضاء قرنة شهوان والمنبر الديمقراطي واللقاء الديمقراطي ونواب من كتلة الرئيس رفيق الحريري، وكان أول لقاء بين هذه الأطراف وبهذا المستوى.
بدأت حملة الترويج للتمديد للحود وجاء القرار الأممي 1559 ليعقد المشهد أكثر ومدد لاحقا للحود وفشلت محاولة إغتيال أحد نواب اللقاء الديمقراطي مروان حمادة.
تتطور النشاط السياسي للمعارضة اللبنانية فجاء لقاء البريستول الشهير في 2004 لتستعرض فيه هذه القوى عضلاتها النخبوية والإعلامية والسياسية ورد على هذا اللقاء بلقاء آخر بدعوة من الرئيس نبيه بري وحضره شخصيا السيد حسن نصر الله ضم حلفاء سوريا وكانت أول إشارة من حزب الله للنية في الدخول في السجال اللبناني الداخلي.
بعد هذين اللقائين، حصلت حملات تخوين مشتركة بين الطرفين ودخل البلد في حملات مراوغة سياسية مع اقتراب الإنتخابات النيابية وكان رفيق الحريري يقترب أكثر فأكثر من المعارضة.
حصلت عملية إغتيال الحريري في 14 شباط 2005 وتلته مظاهرتي 8 و 14 آذار 2005 وإنقسم البلد بين محورين: السعودية وإيران، وذهب الصراع إلى أبعاد وعناوين أخرى.
مصالحة الجبل بين النجاح والفشل:
ليس مبالغة إن قلنا أن هذه المصالحة هي السبب الأساسي للمشهد السياسي الحالي في لبنان، فهي حققت أهدافها المباشرة بتحقيق الأمان في الجبل وتشكيل قوة ضغط معارضة ساهمت وبمساعدة معنوية قوية بدماء الحريري بأن تخرج القوات السورية من لبنان.
حققت المصالحة هدفا إضافيا شكل قيمة معنوية بتأطير العمل السياسي في لبنان ضمن ثنائية المعارضة والسلطة وأعادت الروح إلى العمل الديمقراطي في البلد وعناوين الحرية والتعبير عن الرأي ولو بالحد الأدنى.
لكنها فشلت في ترجمة شعاراتها واقعا ودخلت في لعبة المحاصصة والأهداف الآنية.
14 آذار 2005 آخر تجلي حقيقي وبشري وواقعي لمصالحة الجبل وتوقفت حينها، وبعدها دخلت في أزقة وزواريب سياسية بل أعطت صراعها أبعادا إقليمية ودولية ما أفقدها صفة الإستقلالية والسيادة التي تنادي بهما وهنا كان مقتلها.
كانت تحاكي الطرف الآخر أي حزب الله بلغته الإقليمية وبات مصالحتها وهدنتها مع الحزب أو تحقيق تسوية معه متوقف على التوافق الإيراني والسعودي، ففشلت إستراتيجيا وتحولت من حركة إستقلالية رافضة إلى حركة سلطة تبغي التغيير لفظا لا عملا.
ولعل من أحد أهم أسباب فشلها هو نوعية القيمين على هذه الحركة فهم بأغلبهم أبناء أدبيات السلطة وساهموا في تحويل الصراع من محلي إلى إقليمي وغالوا كثيرا في الإعتماد على الخارج.
أضف أنهم أداروا أظهرهم للمعارضة الشيعية التي بدأت تتشكل بعد 2005 فأضعفوها وهشموها فكان مشروعهم فقط سلطوي لا تغييري.
محنة المصالحة المستمرة:
ستبقى تعيش هذه المصالحة في محنة طويلة لا يخفف من وطأتها تدشين كنيسة سيدة الدر في المختارة بمناسبة الذكرى 15 للمصالحة.
فالسنين تمحو أثر الدماء والحروب لكن التاريخ لا يرحم من يخدعه.