تركيا التي كانت مشروعاً صاعداً لأول بلد في العالم المسلم "القديم" يصالح الإسلامَ مع الحداثة بمعنَيَيْها الديموقراطي والاقتصادي بنجاح بل البلد الوحيد المسْلِم الذي كان يحمل هذا المشروع في العقود الأخيرة... هذه التركيا "انتهتْ" الآن. ستظل الدولة التركية دولة مهمة في جيوبوليتيك البحر الأسود والبحر المتوسط والمشرق العربي والبلقان ولكنها عادت دولة "عادية" بلا "قوة ناعمة" فريدة في العالم المسلم. دولة مضطربة كأي دولة متوسطة الحجم، نيجيريا وإيران وباكستان.
وداعًا تركيا لأن محاولة الانقلاب الأخير وما تلاها كرّسا نهاية "الحلم التركي". ومع أن الانقلاب هو نتيجة لانحرافات سلطوية بدأت أو بدأها رجب طيِّب أردوغان عام 2013 أدّت إلى هجومه القمعي على الصحافة والقضاء والبوليس والنخبة الشبابية والليبرالية الطليعية إلا أن حصوله، الانقلاب، كرّس هذا الوضع. فبعد اليوم لن نُفاجَأْ بأخبار الجيش التركي (المهيب والمحترم تقليدياW) وقد أصبحت مثل أخبار بعض جيوش العالم الثالث من حيث الانقسامات والتصفيات وربما المزيد من الانقلابات، وكل ذلك، كما حصل مع بعض الجيوش العربية، سيؤدي إلى تفريغه من كفاءاته وضرب معنوياته.
يكفي أن نسرد، ولو بتحفُّظ، بعضَ المعلومات المتداولة حاليا في اسطنبول لنأخذ فكرةً عن حجم التدهور داخل المؤسسات:
على سبيل المثال لا الحصر، فإن أحد أبرز قادة الانقلاب الأخير القابع في السجن الآن كان يُنظر إليه بإعجاب بسبب دوره القيادي الفعّال في الحرب التي عاد الرئيس رجب طيّب أردوغان وورّط فيها الجيش مع الأكراد.
مثال آخر كما يتداول العديد من المراقبين الأتراك، فإن الطيار الذي أسقط الطائرة الروسية قبل أشهر قابعٌ أيضا في السجن كونه شريكاً في الانقلاب. هناك من نقل عن ضابط كبير أن الجنرال المسؤول عن العمليات العسكرية في سوريا قُتل خلال مشاركته في الانقلاب.
في إحدى إطلالاته الصحفية النادرة بعد المحاولة الانقلابية التي من المعروف أنه وقف ضدها بل رفض الانصياع لها عندما احتجزه الانقلابيون... قال رئيس الأركان خلوصي أكار إن ما حصل داخل الجيش يحتاج إلى خمس سنوات على الأقل لتعويضه بشرياً وتنظيمياً.
في القضاء، في الجامعات، في مراكز البحث العلمي، في الإعلام.... ألوف الكفاءات التي ستتصيّدها الشركات والمعاهد والمؤسسات الغربية وتختار بينها من يأتي إليها في أوروبا وأميركا. Déjà vu في بلدان نزيف الكفاءات.
يقول المنتصر ما يشاء: هذا هو الجو الحالي في تركيا.
لو ينتبه أردوغان ورئيس وزرائه إلى ما يقولان لعَنَى ذلك أن أكبر إنجاز ديموقراطي منسوب لأردوغان هو إنجازٌ لفتح الله غولن. فعندما تبدأ الدولة بتسريب اعترافات لمدعٍ عام سابق أنه لفّق اتهامات لرئيس الأركان الأسبق يوشار بيوكانيت لإضعاف الجيش وتقديمه للمحاكمة عام 2011، فهذا يعني أن إنهاء الوصاية العسكرية على الحياة السياسية هو إنجاز لفتح الله غولن أو ساهم فيه الغولينيون وليس لأردوغان و"حزب العدالة والتنمية".
هناك مقارنة استخدمتُها مراراً منذ تظاهرات ساحة تقسيم وتتعلّق بما فعل الرئيس شارل ديغول بعد مظاهرات 1968 الطلابية واستفتاء 1969 الذي تلاها حين غادر الحكم بإرادته نتيجة تسليمه بمعارضة واسعة له بين الفرنسيين. أين رجب طيِّب أردوغان من هذه الحساسية؟
أمس الأول لفت نظري أحد الأصدقاء إلى مقارنة أخرى تتعلّق برئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر. أردوغان يتباهى بقيادة إنجاز رفع الوصاية العسكرية عن الحياة السياسية، وقبل ذلك بقيادة ازدهار اقتصادي كبير في السنوات الأولى من تولّيه السلطة ويرفض تالياً أي فكرة لتنحّيه عن الحكم استناداً إلى ذلك، بينما السيدة تاتشر التي قادت عملية تحديث و"تحرير" ليبرالية قاسية وناجحة للاقتصاد البريطاني في الثمانينات من القرن المنصرم قبلت بعد عشر سنوات من الحكم فكرة تنحّيها لإعطاء المجال لجيل جديد من السياسيين في حزب المحافظين. يتصرّف أردوغان منذ 2013 وكأنه "حاكم أبدي" على "تركيا الجديدة" بحجة الإنجازَيْن الديموقراطي والاقتصادي.
"إن الأمن النسبي للبلد ليس مبرراً لقبول القمع والتسلط. فالمنافسة السياسية الحقيقية وحرية الصحافة هما علاجان للفساد ونقص الكفاءة اللذيْن يطبعان الأنظمة الديكتاتورية. طريق وصوله إلى الحكم يجب أن تذكِّره أن إقصاء حكومة يمكن أن يحصل... عندما تُغلق كلُّ الوسائل أمام التغيير":
هذه الكلمات وردت في افتتاحية "النيويورك تايمس" أمس. لكن ليس عن تركيا وأردوغان بل عن نيكاراغوا ورئيسها الذي أقام دولة تسلطية رغم وصوله إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع وقبل ذلك مساهمته في إقصاء حكم عائلة سوموزا الذي استمر حوالي نصف قرن، ويستعد اليوم لتحويل زوجته إلى نائب للرئيس في نظام عائلي مستمر منذ عام 2006 ويتكرّس أكثر الآن معزَّزا ببعض النجاحات الاقتصادية. لقد سبق للصحافة الغربية الكبرى أن قالت مراراً ما يشابه هذا الكلام النقدي لأردوغان. إذ يبدو أن العالم الثالث لا زال رغم تقدم الثقافة الديموقراطية في العشرين عاماً الأخيرة فيه معَرَّضاً لهذا النوع من انحراف الحاكم المنتخَب نحو الديكتاتورية. فهناك طابع عالمثالثي للانحرافات السلطوية وليست هذه محصورةً طبعا في العالم المسلم. لكنْ الفارق أن العوالم غير المسلمة مليئة بأمثلة على التقدم الديموقراطي بينما في العالم المسلم الأمثلة الديموقراطية نادرة ولهذا (كانت) تركيا مهمة وضرورية.
أيا يكن توزيع المسؤوليات في تبهيت صورة تركيا وإعادة تحويلها إلى دولة عالمْثالثيّة فإن رجب طيّب أردوغان سيتحمّل في المستقبل مسؤولية هذا التحوّل، والأرجح سيكتب مؤرّخو المستقبل أن الشراهة للسلطة والتمسك بها ساهما في عهده بتحريك أسوأ ما في تركيا وليس أحسن مافيها. ناهيك عن تعزيز رأي قديم قبل تجربة "حزب العدالة والتنمية" وكانت أحداث الجزائر منطلَقَه في نهاية ثمانينات القرن الماضي وهو أن مشروع "الإخوان المسلمين" هو الوصول إلى السلطة عبر الديموقراطية ولكن ليس التخلّي عن السلطة مهما كان الثمن.
هناك مستوىً بل مستوياتٌ لما بعد الانقلاب لم تتضح كلفتها الغالية بعد. فعدا اهتزاز مؤسسات الدولة نتيجة حجم التصفيات القائمة بعشرات الألوف وبما يمس كل القطاعات بما فيها الاقتصادية نحتاج إلى وقت لنعرف معنى الانشقاق العامودي الذي أصاب "الحركة الإسلامية" التركية بفعل الصراع الضاري بين "العدالة والتنمية" وبين حركة فتح الله غولن. إذ بالنتيجة هو انشقاق لا رجعة فيه داخل تحالف أمّن الوصول إلى السلطة عام 2002. وهذا يطرح السؤال عما إذا كان "الإسلاميون" الموجودون في الحكم حالياً قادرين على الاحتفاظ بها أيا تكن بدائلهم أو تحالفاتهم المستجدة، وأيا تكن الخيارات شعبية أو غير شعبية.
المسألة هي أعمق مِنْ مَنْ حاول الانقلاب لأن حصول محاولة الانقلاب نفسها هو العلامة على تدهور بل "موت" النموذج التركي الذي توهّم عديدون داخل تركيا وخارجها (ومنهم كاتب هذه السطور) أن بإمكان هذا النموذج أن يضيئ في ليل العالم المسلم الحالك الظلمة. فسواء نجح الانقلاب أو فشل، الأهم أنه لو كان التطور الديموقراطي في تركيا سليما لما حصل. بهذا المعنى النجاح والفشل هما فشلٌ ما عدا للمتصارعين على السلطة... سلطةِ دولةٍ تنتقل في الممارسة السياسية إلى الصفوف الخلفية.
وداعا تركيا بما هي البلد الذي كان واعِداً له ولكل المسلمين خارجه. ولذلك الخسارة ضخمة بل تاريخية بما التاريخ هو المستقبل.