ليست معركة حلب معركة سورية يسمح للسوريين المتصارعين البت في مآلاتها. فمصير المدينة يحدد مصير البلد، والسيطرة عليها من قبل النظام أو المعارضة تلقي بظلال حاسمة في أي تسوية مقبلة. وفي الهجوم الذي شنّته قوات النظام والميليشيات الشيعية الحليفة بغطاء جوي روسي لإسقاط المدينة، وفي ذلك المضاد الذي باشرته المعارضة لقلب الطاولة ومنع ذلك، ما يفيد أن الأوان لم يحنْ بعد لأي طرف كان أن يحسم معركة حلب، وبالتالي أن يحسم معركة سوريا.
لم يأت الهجوم الدمشقي الإيراني الروسي على المدينة خارج السياقات الدولية أو معاندا لها. أعطي الضوء الأخضر للهجوم بعد ساعات من مغادرة وزير الخارجية الأميركي جون كيري لموسكو. قال الرجل إن المداولات مستمرة مع الطرف الروسي حول سيناريو التنسيق العسكري بين الطرفين لضرب تنظيميْ داعش والنصرة، فيما سرّبت موسكو ما مفاده أن الاتفاق لن يكشف عنه، بما أوحى أن معركة حلب هي في صلب الصفقة العتيدة.
لم تكن واشنطن وموسكو الوحيدتين في التواطؤ. كان يجب على كل الجوقة الغربية أن تدلي بدلوها مواكبة للحدث الحلبي. حمل كيري الاتفاق السري إلى نظرائه الأوروبيين متصاحباً مع ضجيج أوروبي بدّل رأي بوريس جونسون وزير خارجية لندن الذي أفاق على اعتبار بشار الأسد المشكلة بعد أن اعتبره قبل ذلك حلا. عزف الأوروبيون جميعا معزوفة واحدة ضد رأس السلطة في دمشق، على ما اعتبر رعاية أخلاقية نظرية منافقة لما ينتظر حلب.
كان بالإمكان استنتاج أن معركة حلب مطلوبة لموسكو لتحسين شروط التفاوض في جنيف، وليست لحسم الصراع في سوريا. وعلى قاعدة ذلك كان مسموحا دوليا العبور إلى تلك الحقيقة الجديدة المتوخاة، طالما أنها ليست مفصلاً لقلب التوازنات نهائيا. ليس في الأمر عبقرية استثنائية، ذلك أن مصير سوريا النهائي يقرره توازن قوى دولي إقليمي لا يبدو أبدا أنه بات مرجحا لتفوّق روسي، ناهيك عن أن القوى العسكرية المساندة للنظام عجزت منذ بداية الأزمة عام 2011، وما زالت عاجزة على حسم الصراع عسكرياً لصالح نظام الأسد في دمشق. تعرف موسكو حدود المعركة في حلب والحدّ الأقصى المتاح، وهو أمر، على ما يبدو، لا يروق لنظام دمشق ونظام الولي الفقيه في طهران.
حققت قوات النظام وحلفاؤها التقدم اللافت في حلب لسببين واضحين: الأول، قوة المهاجمين وكثافة نيرانهم وتناسق هجماتهم وتوافق قوى الأرض (السورية الإيرانية) مع قوى الجو (الروسية) التي لم تغب هذه المرة. الثاني، هو امتناع فصائل كبرى عن الدفاع وإعلانها عن ذلك لأسباب تتعلق ربما بحسابات تركيا في مداولاتها الحالية مع روسيا عشية زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان المرتقبة إلى موسكو. وفي دقة ذلك العزف الذي لا يتحمل نشازا، قرعت دمشق طبول النصر وأعلنت موسكو عن فتح ممرات إنسانية فُهم منها طموح لتفريغ مناطق المعارضة في حلب تمهيدا للانقضاض التام والكامل على المدينة.
انزعجت واشنطن وعواصم أوروبية مشككة بممرات موسكو لإخراج المدنيين والعسكريين مـن النصف الثاني للمـدينة الذي لم يسقط. وقد يفهم من ذلك الانزعاج أن من ابتلع النهر غص بالساقية، وقد يُفهم أيضـا أن تفاصيل الميـدان الحلبي قـد اخترقت خطوطا حمراء لم تَرْقَ إليها تفاهمات كيري في موسكو. بقيت أنقرة صامتة إزاء التطورات في سوريا وهي مازالت كذلك، مشغولة تصب جهدها المعلن على تداعيات محاولة الانقلاب. لكن أنقرة التي اهتز نظامها منذ ليلة الانقلاب الفاشل تسعى دون ضجيج إلى الاحتفاظ بأوراق القوة لديها.
سبق لأنقرة أن اعتبرت أن حلب جزء من فضائها الأمني الاستراتيجي، وبالتالي فإن سقوط المدينة سقوط لهذا الأمن. تأخذ تركيا منذ المصالحة مع روسيا مصالح وأجندات موسكو في سوريا بعين الاعتبار، لكنها غير جاهزة للتخلي عن أوراقها السورية مجانا كرامة لتقدم في علاقاتها المأمولة مع روسيا والتي قد تفرج عنها زيارة سلطان أنقرة لقيصر موسكو. وربما في الهجوم المضاد الذي شنته المعـارضة السورية في حلب تذكير لمن يهمه الأمر بمواطن القوة المريحة التي تمتلكها تـركيا، والتي لن تفرّط فيها دون شراكة حقيقية كاملة في المآلات السورية.
لا تسمح واشنطـن بتحقيق تسـوية ناجزة في سوريا في الأشهر الأخيرة لإدارة الرئيس بـاراك أوباما، ولا تمتلك النيـة والعزم والقدرة، لكنها غير معنية في هذا البلد إلا بـإسقاط الرقّة وطـرد داعش وبتجميد الملف لتسليمه معلّقا إلى الخلف في البيت الأبيض. لا تسمح واشنطن بأرجحية تثبت تفوّقا روسياً يخدم أجندة طهران الإقليمية. لا شيء في شكل العلاقة بين الغرب وإيران بعد التوقيع على الاتفاق النووي يتيح تسليما بالأوراق الإيرانية في المنطقة عامة، وسوريا خاصة. قد يتوافق المزاجان؛ الأميركي والتركي، في التفصيل الحلبي، وليس بريئا أن يتزامن الهجوم المضاد للمعارضة (تركي الهوى) مع زيارة قام بها رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركي الجنرال جوزيف دانفورد إلى تركيا، وهو ما يعيد تعريف العلاقة بين أنقرة وواشنطن، والتي يبالغ البعض في استشراف انهيارها، مقابل تنام غير طبيعي لعلاقة أنقرة بموسكو.
سيطل الرئيس التركي على روسيا، خلال أيام، بعد اعتذاره عن سقوط طائرة السوخوي، وربما أسفه لسقوط طائرة الهليكوبتر التي كـانت تقوم بـ“مهام إنسانية” حسب الرواية الروسية الرسمية والتي أسقطها سلاح أميركي وفق البعض من التقارير. ولا شك أن سيّد الكرملين أصبح مدركا لعدم قدرة تركيا على قلب نظام الحكم في سوريا، وأصبح مدركا أيضا لقدرة تركيا، مع ذلك، على تعطيل طموحات روسيا وجنرالاتها في سوريا. يثمّن أردوغان موقف الأسد في إدانته لمحاولة الانقلاب بتركيا. ليس في ذلك أي حركة ودّ تجاه الأسد، بل تعبير تركيا لروسيا عن مواهب المرونة التي تتحلى بها تركيا وقدرة نظامها السياسي على تدوير أي زوايا تتطلبها الرسوم الهندسية المطلوبة. شروط ذلك بسيطة: أن تعترف روسيا لتركيا بشراكة حتمية إذا ما أرادت لفلاحتها السورية أن تنتج ثمراً قابلاً للقطاف يوما ما.
محمد القواص: العرب