يتصرّف اللبناني أحياناً كأنه ساكن في مدغشقر، ويتابع أخبارَ بلاده عبر "سكايب"، ولا يوحي لك أنه غارق إلى ما فوق أذنيه بكلّ ما في هذا البلد من أمراض متوارثة في السياحة والتجارة والصناعة وتقاليد قطف الصُبّير وتركيب لمبة "ألاووز"...
أخد على خاطر اللبنانيين أمس بسبب فاتورة أحد المطاعم البيروتية التي إنتشرت هستيرياً على مواقع التواصل الإجتماعي... وشعر سكّان العاصمة والجبل بـ"هزّة طفيفة" سببها المفاجأة غير المتوقَّعة التي أحدثتها هذه الفاتورة في أوساط عبيد "البرستيج" والفخفخة والسيغار الملفوف على ساحة ساسين.
هناك قسمٌ غير قليل من اللبنانيين الذين يعيشون سيّاحاً في بلدهم، ولا يتركون مطعماً أو ملهىً ليلياً أو وجهة سياحية إلّا ويجمعون سليلتهم لزيارتها... ويبقى كلّ شيء تحت السيطرة إلى حين وصول الفاتورة، وهناك يتحوّل "الخواجة" مواطناً و"بيكشّ" تحت شرشف الطاولة مطالباً بمراعاة الوضع الاقتصادي والحدّ الأدنى للأجور...
ينسى اللبناني أنّ لبنان بلدٌ سياحيّ بامتياز ويعتمد موسمياً على المداخيل من بعض المرافق لتأمين مدخولٍ يعيل العائلات التي تعتاش من هذا القطاع... وطالما أنك لستَ قادراً على "السواحة الداخلية" ودفع فاتورة المطعم المخصّص لاصطياد الأثرياء والسيّاح المرتاحين، يمكنك بكلّ سهولة قراءة الـ"Menu" والمغادرة مباشرة بعد تفقّد الأسعار، أو يمكنك ارتياد مئات وآلاف مقاهي ومطاعم "أم الفقير" المخصّصة للّذين مثلي ومثلك، والتي لا تفخت فاتورتها جيبك ولا تصيبك بشللٍ نصفي حتى نهاية الشهر.
طوّلوا بالكن علينا شوي وخفّفوا بطولات، ولا ضرورة لمطالبة بان كي مون بالإعراب عن قلقه من الفواتير اللبنانية... ونحن مستعدّون لتنظيم مسيراتٍ راجلة على طول الساحل اللبناني للدفاع عن حقّك إذا تجرّأ أيُّ مطعمٍ أو مقهى على خداعك بالأسعار والفاتورة النهائية... ولكن طالما أنتَ "مفزلك" وعايش "تفشيخ وبهْوَرة"، تحمّل وحيداً تبعاتِ أسلوب حياتك، وصحتين على قلب كلّ صاحب مطعم يحصّل منك سعر "برستيجك" بفواتير خيالية...
يا ليت اللبنانيين يصابون بنشاطٍ مفرَط على "السوشل ميديا" لعرض كمبيالة قرضهم السكني التي تفوق مدخولهم، أو كمبيالة سيارتهم التي يصرفون أكثر منها لتصليح سيارتهم من الحفر والمطبّات... وأين فواتير اشتراك الكهرباء وسيترن الْمَيّ والخلوي التي يدفعونها أكثر من مرّة شهرياً؟.. وأين "فواتير" السلم الأهلي والعيش المشترَك والوحدة الوطنية التي ندفعها منذ أكثر من 40 عاماً ولم نتوصّل إلى سداد شيء من قيمتها؟.. وأين فواتير سرقة لقمة عيشنا وتعبنا اللامنتهي؟
نغار من الخليجي ومن سياراته، ونغار من إبن عمّنا الذي يعيش في بروكسل ومن ثيابه، ونغار من إبنة جارتنا التي أمضت عطلتها في المالديف ومن مايوهاتها... ونريد اقتناءَ كلّ مقتنياتهم والعيش مثلهم، وعندما تأتي الفاتورة نتفاجَأ ونطالب بمعاملتنا كلاجئين... لو الغَبا إلو سعر لكان بعض اللبنانيين مديونين لحكوماتٍ أجنبية.
(الجمهورية)