على عكس ما استرسل به المشاركون في الحوار مدى ثلاثة أيام من تخيّل إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة في لبنان، هناك ثلاثة عوامل تشكّل معضلات لا يُمكن في ظلها إرساء هذه التسوية؛ الأول: عدم توافر مناخ دولي وإقليمي لانتخاب رئيس للجمهورية (مع اشتراط بعض الأطراف أن يكون هذا الملف هو البند التنفيذي الأول الذي يسبق كل البنود).
الثاني: تشبّث كل طرف بموقفه، والثالث إصرار بعض الجهات (تحديداً تيار المستقبل والكتائب) على إجهاض كل توافق. وقد ظهر ذلك جلياً في الجولة الثالثة من «ثلاثية الحوار» حيث انقلب كل من الرئيس فؤاد السنيورة والنائب سامي الجميل على مواقفهما الإيجابية في الجلستين الأولى والثانية، حتى كاد رئيس مجلس النواب نبيه برّي أن يفرط الحوار بعدما تطرّق رئيس حزب الكتائب بصراحة إلى أمرين أشارت إليهما مصادر الطاولة المستديرة، هما: «أن البنود المطروحة داخل الحوار مكانها المؤسسات الدستورية وليس مقر الرئاسة الثانية، وأن ما اتفق عليه بشأن استحداث مجلس للشيوخ لا يُمكن أن يحصل في ظل السلاح غير الشرعي»! هكذا أنهى الجميّل مداخلات جلسة الحوار، ودعمَه السنيورة بالقول «كلامك جيّد»، الأمر الذي استفزّ برّي قائلاً «شو باك يا سامي، إذا ما بدكن حوار فبلاه، وما منروح على جلسة تانية».
بعد انتهاء جلسة الحوار التي عُقدت أمس، لم تظهر أي مؤشرات تبشر بإمكان إرساء تسوية من ضمن سلّة متكاملة، ولا حتّى الاتفاق على بند واحد من البنود المطروحة. لا رئاسة ولا مجلس شيوخ ولا قانون انتخابات. حتى إن بعض المتحاورين لمّح إلى أنه ليس في الميدان إلا قانون الستين، ولا مفرّ من العودة إليه. عملياً، ضيّعت القوى السياسة وقتها ووقت المواطنين حتى تصل إلى هذه الخلاصة تفادياً لتمديد أو فراغ محتملين. على مدى ثلاثة أيام عجزت هذه القوى عن جعل خياراتها تأخذ بعداً وطنياً، ولم تكن مداولاتها سوى محاولة لإنتاج تفاهمات تعيد من خلالها تقاسم السلطة تبعاً لما تفرضه موازين القوى. في الجلستين الأولى والثانية تعامل الجميع بإيجابية ومرونة لأن النقاش جرى على المبادئ العامة، لكن وقت التنفيذ «كلام الليل يمحوه النهار»، ولم يكن أحد في وارد التخلي عن أوراقه، فسقط الحوار وسقطت معه الآمال، وبناءً عليه ستكون عناوين المراحل المقبلة «الانتظار والمراوحة ثم… الفراغ»!
لماذا وصلت ثلاثية الحوار إلى ما وصلت إليه؟ تتفق المصادر على أن أجواء الجلسات الثلاث قد اختلفت. في الأولى «نقاش جدّي تشوبه بعض العراقيل». في الثانية «توافق (نسبي) مع ارتفاع لمنسوب التفاؤل»، وفي الثالثة «عودة إلى النقطة الصفر». وبالشرح المفصل حصل خرق بسيط في موضوع الرئاسة حين أبدى البعض استعداده للبحث في مرشح توافقي من خارج المرشحين الحاليين. لم يعن ذلك أن أحداً كان في وارد التخلي عن دعم العماد ميشال عون أو الوزير سليمان فرنجية، إلا أن كلمة التوافق شكّلت عند بعض الأطراف مخرجاً يمكن البناء عليه لفتح باب الحل. وعندما طرح برّي في اليوم الثاني بند مجلس الشيوخ، تصرف الجميع على أساس أن الأمور تأخذ منحى إيجابياً يفتح ثغرة في جدار الأزمة. ناقش المتحاورون التفاصيل، اصطدموا ببعض الهواجس، إلا أن أحداً لم يعترض على المبدأ. هذه الإيجابية دفعت ببرّي إلى أن يوسّع النقاش في الجلسة الأخيرة، وانتقل المتحاورون إلى مربع جديد يتعلّق بماهية مجلس الشيوخ وصلاحياته وقانون الانتخابات والفصل بينه وبين مجلس النواب. هنا، ظهرت النيات الحقيقية عند البعض وعدم رغبتهم في التوصل إلى حلّ. فبعد أن قدّم السنيورة مداخلته في هذا الشأن متسائلاً عن «كيفية تأسيس هذا المجلس وصلاحياته»، معتبراً أن مهمته «البت بالقضايا المصيرية، وهو ما يفرض علينا أن ينتخب هذا المجلس بالمناصفة»، وعلّق رئيس التيار الوطني الحر بأن «القانون الأنسب لهذا المجلس هو القانون الأرثوذكسي، يعني أن تنتخب كل طائفة شيوخها»، عاد الجميل إلى الحديث عن رئاسة الجمهورية. فحين طرح الرئيس بري موضوع مجلس الشيوخ أبدى الجميل عدم ارتياحه لهذا الجو، وقال «نحن مع إصلاح النظام ولا يخيفنا النقاش حول الإصلاحات على طاولة الحوار، لكن لا نستطيع البحث في الإصلاحات في غياب رئيس الجمهورية وهذا خروج على الدستور». ورفض أن يُتَّهم بأنه ضد الإصلاح، وقال «منذ خمس وعشرين سنة ومجلس الشيوخ لم يبت، ولم يكن بسببنا»، ولفت الى أن «الطائف ينصّ أيضاً على تسليم السلاح غير الشرعي»، في إشارة إلى سلاح حزب الله. وأضاف أن «ربط قانون الانتخاب بإنشاء مجلس الشيوخ يعني الهروب الى الأمام، وتطيير قانون الانتخاب أو الإبقاء على الستين، لأن مجلس الشيوخ يحتاج وقتاً طويلا لدرسه وإنشائه، ولدينا أقل من عشرة أشهر لإجراء الانتخابات». وحين أصرّ بري على تحديد كل جهة مندوباً عنها لتشكيل لجنة لدراسة مجلس الشيوخ، قال الجميل «أتحفظ على كل ما يجري وأتمنى أن يسجل تحفظي. أنا متحمّس للحوار لكن من أجل تفعيل ملف الرئاسة وانتخاب رئيس جديد». وقد ظهر واضحاً وجود «لوبي» آذاري يسعى إلى إفشال ما اتفق حوله في الجلسة ما قبل الأخيرة، حين، وبحسب المصادر، أيّد وزير الاتصالات بطرس حرب كلام الجميل قائلاً «ما تاكلولنا قصة الرئاسة»، وكذلك فعل السنيورة معتبراً أن كلام الجميل عن السلاح «جيد ومنطقي». هنا هبّ رئيس الحزب السوري القومي أسعد حردان للدفاع عن سلاح المقاومة وتوجّه إلى الجميل قائلاً «إذا عم نحكي عن الطائف، فالطائف أيضاً نص على تحرير الوطن»، وأثنى على كلامه النائبان محمد رعد وطلال أرسلان الذي أبدى انزعاجه من هذا الكلام. هذا الاشتباك الكلامي أثار حفيظة الرئيس برّي الذي استشعر محاولات فريق الرابع عشر من آذار ومعه الكتائب لإفساد الحوار، فردّ بشكل حازم «إذا ما بدكن جلسات، ما بقا بعمل جلسات حوار»، قبل أن يتدخل الوزير السابق غازي العريضي معلقاً: «فشل الحوار لا يعني فشل الرئيس برّي بل فشل جميع القوى السياسية، والاستمرار في الجلسات واجب، لأن الحوار هو الذي أنقذ الحكومة ومجلس النواب مرات عدّة». أما في ما يتعلّق بقانون الانتخابات والتلويح بالخضوع لقانون الستين من جديد، فلفتت المصادر إلى أن «العودة إلى قانون الستين هي المسار الطبيعي الذي سوف نسلكه في ظل عدم توافر التوافق». وقالت المصادر «إننا على بعد أشهر من الاستحقاق النيابي، هناك ثلاثة خيارات هي: إما الاتفاق على قانون (وهذا لن يحصل)، وإما التمديد للمجلس النيابي وإما الفراغ»، وفي هذه الحال «الستين هو أهون الشرور».
بري مرتاح: أنا أكثر تفاؤلا مما توقعت
في تقويمه لحصيلة الأيام الثلاثة من خلوة الحوار في عين التينة، عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري عن ارتياحه الى أعمالها، قائلا: «انا الان اكثر تفاؤلا مما توقعت عند دخول الحوار، لكن الأمور تبقى في خواتيمها».
وأوضح انه طلب من أقطاب الحوار تزويده حتى ٥ أيلول اسماء مقترحة لدخول لائحة الخبراء الذين سيتولون صوغ مسودتي مجلس الشيوخ وقانون الانتخاب خارج القيد الطائفي، اسم واحد لكل منهم، على ان يصير الى الإعلان عنها في الاجتماع المقبل للحوار كي تباشر مهماتها منذ ذلك التاريخ، خصوصا انه لن يتاح انعقاد مجلس النواب، ولن تكون ثمة دورة استثنائية، من ثم تحال المسودات على مجلس النواب.
وذكر بري انه أحال اقتراحي قانونين باللامركزية الإدارية على لجنتي الادارة والعدل والداخلية والبلديات لمباشرة مناقشتهما واستخلاص مشروع موحد منهما تطبيقا لاتفاق الطائف.