في ظل استمرار حالة الركود التي يمر بها الاقتصاد الروسي، بدأت الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي، وعددها 83، في التنافس من أجل الظفر باستثمارات خارجية كي تستطيع الصمود. وقد تجلّى ذلك بوضوح خلال الدورة العشرين للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي انتظم في سان بطرسبورغ في ما بين 16 و18 يونيو الماضي تحت عنوان “على عتبة واقع اقتصادي جديد”.
لقد حاولت الحكومات والشركات الإقليمية، خلال المنتدى، جذب شركاء ومستثمرين أجانب، وركزت الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي أنظارها على دول الخليج العربي والدول الإسلامية في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، ضمن استراتيجية يرى خبراء في مركز سترافور الأميركي للأبحاث الاستراتيجية أنها تضع موسكو في مأزق، بسبب الرغبة في تأسيس أنظمة مالية مشتركة مع الدول الإسلامية، المختلفة بدل الأنظمة الاتحادية، ويمكن أن يؤدي تقدم اقتصادها في نهاية المطاف إلى التمرد على قيود الكرملين.

ويعيش في روسيا اليوم حوالي 13 بالمئة من المسلمين، يتركز معظمهم في ثماني جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي وهي: تتارستان وبشكيريا والشيشان وكراشاي-شركيسيا وكاباردينو بلكاريا وإنغوشيا وداغستان وأديغيا. وبموجب القانون الروسي، يمكن لهذه المناطق، وهي جمهوريات مستقلة بسبب أغلبيتها غير الروسية، أن تختار بنفسها اللغات والدساتير والرؤساء والهياكل الأمنية الخاصة بها. وقد منحت موسكو هذه الحريات إلى هذه المناطق على مضض، في أعقاب حروب شمال القوقاز، محاولة منها لتهدئة مشاعر الانفصال.

ويعتمد النمو الاقتصادي في هذه الجمهوريات على الدعم الفيدرالي، الذي كان كبيرا إلى حد سنوات قليلة ماضية. فعلى مدى العقد الماضي، وفرت صناديق الكرملين من 80 إلى 90 بالمئة من ميزانيات الشيشان وداغستان وأكثر من نصف ميزانيات مناطق شمال القوقاز الأخرى. كما تعتمد الأنظمة البنكية في الشيشان وداغستان على النظام البنكي الفيدرالي الروسي، وفي ذلك تناقض صارخ مع استقلالية البنوك في تتارستان وبشكيريا.

رغم هذه الاختلافات الاقتصادية، فإن مختلف الجمهوريات الإسلامية في روسيا تضررت من انهيار أسعار النفط العالمية، حيث يشهد النمو في تتارستان وبشكيريا تباطؤا، في حين شهدت مناطق شمال القوقاز تراجع دعم الوقود إلى النصف. وعلى مدى العامين الماضيين، استعمل الرئيس الشيشاني رمضان قديروف احتياطات بلاده لتعويض النقص في الميزانية (رغم أن الاحتياطات تم تمويلها من رواتب موظفي الخدمة المدنية). لكن لم تتولّ موسكو معالجة هذه المسألة، وتركت المناطق الروسية تبحث عن الاستثمار الخارجي والدعم المالي بمفردها.

دول الخليج تصل إلى عمق روسيا بعد أن تجاوزت موسكو وأصبحت تتفاوض مباشرة مع الجمهوريات الإسلامية
ممولون من العالم الإسلامي

تحاول الجمهوريات الإسلامية الاستعانة بقوانين الاقتراض الإسلامية بدلا من القوانين الاتحادية الروسية لحل مأزقها المالي؛ وهي من خلال الاعتماد على نظام الصرف الإسلامي، لا تفكر فقط في جذب اهتمام الجمهور بالداخل، بل من بقية الدول الإسلامية أيضا. لكن قد تصطدم خطتها بعقبة تتمثل في كون التمويل الإسلامي محظورا في روسيا، لأنه لا يتطلب دفوعات الفائدة التي تطلبها الأدوات المالية التقليدية.

ولم يدعم الكرملين بشكل كامل هذه الخطط الاقتصادية، لكنه، أيضا، لم يمنع استخدام هذه المناطق للتمويل الإسلامي. ففي شهر مارس الماضي، وافق البنك المركزي الروسي على خارطة طريق تخص تتارستان لبدء استكشاف آليات المصرفية الإسلامية كاختبار. وتأمل تتارستان أن يؤدي استخدامها إلى نظام التمويل الإسلامي في جذب اهتمام دول مجلس التعاون الخليجي التي لها علاقات وثيقة مع المنطقة.

وارتفع التمويل القادم من دول الخليج من 60 مليون دولار عام 2011 إلى 760 مليون دولار عام 2015. وتم ضخّ معظم التمويلات الجديدة في إنشاء المدن الذكية التي يجري بناؤها في كازان، عاصمة تتارستان. وتوظف المنطقة الاقتصادية الخاصة باستضافة الأنشطة الطبية الحيوية والمستشفيات ومراكز البحوث الأكاديمية، إلى جانب مختبرات تطوير تكنولوجيا المعلومات.

وتسعى تتارستان إلى تأمين المزيد من الموارد لمشروعها الأساسي. ولتحقيق هذه الغاية، عقدت محادثات مع البنك الإسلامي للتنمية في المملكة العربية السعودية، والذي وعد بجعل تتارستان مركزا للتمويل الإسلامي في روسيا في غضون السنوات القليلة المقبلة. وعلى غرار تتارستان، سعت الشيشان إلى إقامة شراكات مع دول الخليج، خصوصا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وقد ناقش الرئيس قديروف العديد من المشاريع الإنشائية في غروزني مع المسؤولين السعوديين والإماراتيين. وكان بعض المستثمرين الخليجيين أعربوا عن قلقهم من افتقار المنطقة إلى أنظمة تحويل الأموال الإسلامية. وردا على ذلك، أعلن الرئيس الشيشاني، في وقت مبكر في عام 2016، أن منطقته تعتزم فتح بنك إسلامي والتشاور مع شركة استثمار إماراتية لإقامة مشروع مشترك مع أحد الشركاء من دول الخليج العربي.

روسيا والتقليل من النفوذ الخليجي

السؤال الآن هو هل ستسمح موسكو باستمرار التمويل الخليجي؟ فلسنوات تجنب الروس عقد صفقات مع دول الخليج العربي بسبب العلاقات المعقدة في المنطقة. ولكن عندما بدأت علاقاتها تتدهور مع الغرب في عام 2014، لجأت روسيا إلى البحث عن شركاء آخرين، كان الخليجيون أبرزهم؛ وقدّرت قيمة التمويلات بين روسيا ودول الخليج بين عامي 2014 و2015 بـ25 مليار دولار. والآن بدأت دول الخليج تصل إلى عمق روسيا بعد أن تجاوزت موسكو وأصبحت تتفاوض مباشرة مع الجمهوريات الإسلامية، ما وضع الكرملين في مأزق حقيقي. فمن جهة، لا يستطيع الكرملين تحمّل دعم الجمهوريات الإسلامية، ومن جهة أخرى، لا يمكنه أن يسمح أن تعيش الأقاليم في ظل وضع سيء خوفا من أن يؤدي ذلك إلى حالة من عدم الاستقرار.

وهناك قلق لدى روسيا حول إمكانية أن يؤدّي التنوع الاقتصادي والتنافس بين الجمهوريات الإسلامية إلى انفصالها في النهاية عن نظام البنوك الاتحادي. لذلك لن يقدم الكرملين على إعطاء الجمهوريات المزيد من المساحة لبناء نظامها البنكي الخاص. وإذا ما اختارت موسكو قبول أموال دول الخليج، فإن الكرملين سوف يلجأ إلى التأكد من أن تلك التمويلات سيتم إنفاقها على المشاريع التي لن تقوّض سيطرته على الجمهوريات الإسلامية. وقد دفعت المخاوف بالكرملين إلى سنّ سلسلة من القوانين الصارمة على المؤسسات التي تتعامل مع شركات أو مؤسسات أجنبية.

وقد أذكت مفاوضات بين الرئيس الشيشاني رمضان قديروف وولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قلق موسكو. وكان محور اللقاء مشاركة المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى في تدريب مشترك بمركز تدريب القوات الخاصة في الشيشان. وقد زار في مايو الماضي وفد سعودي الشيشان لمناقشة مشاريع استثمارية.

ومن المرجح أن تواصل موسكو وضع أمنها القومي ووحدة ترابها في مرتبة تسبق الاحتياجات المتزايدة لسكانها المسلمين، بغض النظر عن مدى فداحة الأوضاع المالية في هذه المناطق.

ورغم أن الكرملين لا يمكنه أن يفرض على الجمهوريات الإسلامية تجاهل الفرص التي يتيحها التمويل والاستثمار الإسلامي، إلا أنه سوف يفعل كل ما في وسعه لإقحام نفسه في العملية من أجل كبح جماح العلاقات الناشئة للجمهوريات الإسلامية مع دول الخليج العربي وبقية العالم الإسلامي.

صحيفة العرب