بات الرئيس نبيه بري الذي حائزا ألقابا وصفات سياسية عديدة: صمام الأمان، ضابط الإيقاع السياسي، مدير الأزمات ومخترع الحلول، صانع الألعاب والساحر الماهر... يترأس ولثلاثة أيام طاولة الحوار الوطني ويواجه واحدة من أصعب وأدق مهماته في ظروف بالغة التعقيد جعلت أن زمام المبادرة أفلت من يده وأن الوضع خرج عن سيطرته. يحلو للرئيس بري أن يصف هذا «المؤتمر الحواري» بأنه «دوحة لبنانية» داعيا الى قيام تسوية سياسية على غرار اتفاق الدوحة.

بين العامين ٢٠٠٨ و٢٠١٦ هناك تشابه في طبيعة وحدة الأزمة الداخلية، إن لجهة شغور مركز رئاسة الجمهورية، أو لجهة الشلل الحكومي، والحاجة الى قانون انتخابات جديد، أو لجهة التعطيل الحاصل في مؤسسات الدولة، وحيث لم يعد الوضع السياسي والاقتصادي والمالي وحتى الأمني يحتمل استمرار هذا الواقع... ولكن ثمة فوارق واختلافات كبيرة وجذرية في الظروف والمعطيات التي أحاطت باتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨ وتلك التي تحيط اليوم بمشروع «الدوحة اللبنانية» وأبرزها:

١ ـ تسوية الدوحة عام ٢٠٠٨ كانت مسبوقة بتفاهم على الرئيس التوافقي (العماد ميشال سليمان) وبنيت على هذا الأساس. كان الاتفاق حاصلا على اسم الرئيس ولكن انتخابه كان يحتاج الى اتفاق على الحكومة وقانون الانتخاب اللذين تم تفصيلهما على قياس العهد الجديد.

أما اليوم فإن مؤتمر الحوار ينطلق من دون اتفاق على اسم وشخص رئيس الجمهورية وسط تجاذب حاصل حول ثلاثة خيارات تملك كلها فرصا وحظوظا: ميشال عون ـ سليمان فرنجية ـ الرئيس الثالث التوافقي... ومادام لم يحصل اتفاق على الرئيس الجديد فسيكون من الصعب الاتفاق على البنود الأخرى.

٢ ـ التسوية اللبنانية في الدوحة جرت في العام ٢٠٠٨ تحت مظلة إقليمية «إيرانية ـ سورية ـ سعودية ـ مصرية ـ قطرية» وبضوء أخضر أميركي عندما كان لبنان الخارج للتو من حرب تموز ٢٠٠٦ يشكل أولوية وشديد الصلة باستقرار المنطقة.

اليوم هذه المظلة غير موجودة، وبدلا منها هناك مظلة الصراع الاقليمي الذي اجتاح معظم دول المنطقة ولبنان من ضمنها.

اليوم لبنان لا يشكل أولوية لا في حسابات الدول ولا في استقرار المنطقة الرازحة تحت حروب وأزمات أعنفها وأخطرها الأزمة والحرب في سورية.

٣ ـ اتفاق الدوحة كان حصل «على الساخن» وكان مسبوقا بحدثين أمنيين مفصليين: معركة نهر البارد وأحداث ٧ أيار. والدوحة اللبنانية اليوم، وإن كانت تجري في ظل أوضاع أمنية مضطربة على الحدود ومخاوف متنامية من خطر الإرهاب في الداخل، إلا أن مشروع الاتفاق يفتقر الى الشرارة أو الى الصاعق المفجر للتسوية، والى الحدث الأمني المحرك والمحفز والدافع الى الاتفاق تحت وطأة الخوف الفعلي من حدوث انهيار في الأوضاع... ومثل هذا الخوف ليس موجودا حتى الآن، وحيث لا يبدو الفرقاء السياسيون مدركين لخطورة الوضع ويأخذونه على «محمل الجد».

٤ ـ القوتان الأساسيتان اللتان كانتا في أساس اتفاق الدوحة، تيار المستقبل وحزب الله، مازالتا كذلك اليوم واتفاقهما هو المدخل الى الاتفاق الوطني الشامل. ولكن ما يختلف اليوم هو أن الهوة الفاصلة بينهما، وبسبب الارتباطات والامتدادات الإقليمية، واسعة جدا ويصعب ردمها في إطار طاولة الحوار الوطني أو الثنائي، ويتطلب الأمر حوارا واتفاقا مباشرا بين الرئيس سعد الحريري والسيد حسن نصرالله، لم تنضج ظروفه بعد.

وما يختلف أيضا أن الوضع في العام ٢٠٠٨ كان قائما على توازن إيجابي بين قوة تقبض على السلطة (المستقبل) وقوة تسيطر على الأرض (حزب الله) ولهما مصلحة ورغبة في الاتفاق. أما اليوم فإن التوازن سلبي بين قوتين لا تستطيع أي منهما التحكم في مسار الأمور، وليست لديهما القدرة وربما الرغبة أيضا في الاتفاق، وكلاهما يتبعان سياسة انتظار ويضبطان ساعتهما المحلية على التوقيت الإقليمي ووسط اختلاف واضح في التوقعات والقراءات، وحيث كل طرف يعتبر أن عامل الوقت يلعب في مصلحته، وحيث حزب الله يعتبر أنه لا مجال لـ «ميشال سليمان آخر» بعدما حصل اختلال كبير في الميزان الإقليمي، وحيث المستقبل يعتبر أنه لا مجال لـ ٧ أيار جديدة بعدما حصل تحول عميق بفعل الأزمة السورية في المزاج والمناخ السني العام.

 

 

الانباء الكويتية