لا حراك دولياً أو إقليمياً في سبيل أن «يفوز» لبنان برئيس للجمهورية. قد تبدي بعض العواصم استعدادها لـ «التسهيل»، لكن لا أحد منها يملك لا الرغبة ولا القدرة على المبادرة، حتى إيران نفسها التي يحمّلها فريق «14 آذار» مسؤولية التعطيل، بدت واضحة بلسان رئيس لجنة الأمن القومي والشؤون الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي بأنها «جاهزة للاستماع إلى المبادرات».. لا الى تقديمها، معتبرة أن القضية الرئاسية في لبنان «استحقاق داخلي يُحلّ من خلال توافق اللبنانيين».
بهذا المعنى، قطع بروجردي الطريق على كل التأويلات والتفسيرات التي أعطيت لزيارته اللبنانية على مدى يومين، قبل أن يتوجه إلى دمشق، على جاري عادة معظم المسؤولين الإيرانيين الذين صاروا يتعمّدون جعل بيروت واجتماعهم بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، ممراً إلزامياً الى دمشق.
وقد كان لافتاً للانتباه تعمّد الضيف الإيراني، توجيه إدانة شديدة للتطبيع السعودي مع اسرائيل، من على منبر السرايا الكبيرة، بعد اجتماعه برئيس الحكومة تمام سلام، وهو أمر ترك صدى سلبياً لدى السفارة السعودية في بيروت.
هذه المشهدية لم تحجب الأنظار عن الحوارية الثلاثية في عين التينة، لا من زاوية عدم مراهنة أي من المشاركين فيها على تحقيق انجاز، بل من زاوية محاولة مديرها الرئيس نبيه بري، نبش كل القضايا والإشكاليات بعنوان «السلّة المتكاملة»، بحيث راح كل مشارك يطرح هواجسه، ليخلص بري الى النتيجة التي يبدو أنها ستوفر له وللجميع «المخرج الآمن»: تشكيل لجنة مصغّرة تمثل جميع أطراف الحوار تكون مهمتها شبيهة باللجنة التي أنقذت حوار مؤتمر الدوحة في ساعاته ودقائقه الأخيرة.
ما هي مهمة اللجنة المذكورة؟
على الأرجح ستأخذ اللجنة على عاتقها نبش كل محاضر الحوار الوطني ووضع خلاصات تتضمن القواسم المشتركة في العناوين المطروحة: اتفاق الطائف، قانون الانتخاب، رئاسة الجمهورية، اللامركزية الإدارية، تفعيل المؤسسات الدستورية، مجلس الشيوخ، تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وغيرها من العناوين التي أثيرت في الجلسات السابقة أو تلك التي ستستمر اليوم وغداً في عين التينة.
ومن يطلع على محضر جلسة الحوار، يتأكد أنه «لم يحن بعد موسم القطاف». أما كل الحديث عن إيجابيات وجلسة هادئة واتفاق على مرجعية الطائف، فكان عبارة عن محاولة لاستثمار الوقت الضائع بعد 26 شهراً من الفراغ الرئاسي.
هل على اللبنانيين أن يفرحوا لأن جلسة الحوار التي تأخرت شهراً ونصف كانت هادئة، أم عليهم أن يصدّقوا أن السلّة الموعودة ستأتيهم بالمنّ والسلوى في اليوم الثالث؟
المؤسف أن «العصفورية اللبنانية» باقية وتتوسع، وكل ما عدا ذلك لا يبدو أكثر من ذرٍّ للرماد في العيون. كل «الأمم» و»الدول» لا تهتم لأمر اللبنانيين. القيادات اللبنانية نفسها لا تبدو مستعدة لأي اتفاق أو سلّة أو تسوية. كل فريق يقف خلف متراسه رافضاً الخروج منه، في انتظار أن يرفع خصمه الراية البيضاء. أما التقارير التي تشير إلى حالة الترهّل التي بلغتها المؤسسات والاقتصاد بكل قطاعاته، مهدِّدة الكيان برمته، فلا يضعها أحد على جدول أعماله، بل نجد كل سياسي يغنّي على ليلاه، وكل يعتبر نفسه أقرب إلى النصر في خياراته.
لو اجتمع كل الحكماء في الأرض، لن يستطيعوا إقناع العماد ميشال عون بأنه لا يزال مرشحاً ولم يصبح رئيساً بعد. لذلك، يضرب «الجنرال» مواعيد لانتقاله إلى قصر بعبدا، وهو يثبت يوماً بعد يوم أنه صاحب حق بأن لا يتنازل عن ترشيحه، طالما أن عنصر الوقت، يضيف الى رصيده عناصر جديدة، بعكس باقي خصومه الرئاسيين.
أما النائب سليمان فرنجية، فيتصرف بوصفه «رجل المرحلة»، ولن يستطيع أحد سلبه «غنيمة» فرضتها ظروف داخلية وخارجية متعددة.. ومفاجئة، جعلت الرئيس سعد الحريري، ومن خلفه «المزاج الغربي»، يتبنى ترشيحه، بدعم كامل من الرئيس نبيه بري الذي يلحّ على الإيرانيين بألا يوفروا فرصة للفوز بمكسب رئاسي في لبنان مخافة أن تؤدي المقايضات الإقليمية لاحقاً الى خسارة كل من عون وفرنجية معاً!
وإذا كان هذان المرشحان هما الأوفر حظاً، نظرياً، في الوصول إلى سدة الرئاسة، فإن ذلك لا يعني أن الآخرين قد فقدوا الأمل. من يلتقي بعض المرشحين التقليديين يشعر أيضاً أنهم ليسوا بعيدين من بعبدا، وهم يفسّرون المعطيات الداخلية والخارجية، بما يناسب هواهم الرئاسي أولاً وأخيراً، لا الوقائع التي تشي بعكس ذلك!
على المقلب الآخر، أي مقلب الناخبين الأساسيين، ليس الوضع أفضل. الكل في مأزق. الرئيس سعد الحريري لم يعد يستطيع الانتظار كثيراً قبل العودة إلى كرسي الرئاسة الثالثة. في البداية، قرّر الرجل أن «يتنازل» بتبنّيه ترشيح فرنجية، قبل أن يكتشف أن «خطوته الكبيرة» التي لم يبلعها جمهوره بعد، لم تكن كافية لإنهاء الفراغ الرئاسي. وها هو يخضع حالياً، لضغط من بعض فريقه، لتبنّي ترشيح عون، الأمر الذي يحرجه، وهو المدرك أن هوامشه الرئاسية أبعد من فرنجية ضيقة جداً، بدليل تلك المسافة التي تفصله عن الموعد الذي ينتظره منذ شهور للقاء ولي العهد الثاني محمد بن سلمان الذي يمضي عطلة صيفية الى جانب والده الملك سلمان في ربوع المغرب العربي المطلّ على المحيط الأطلسي!
سمير جعجع ليس أقل ارتباكاً. رمى رميته بترشيح غريمه السياسي الماروني، معتبراً أن الطبخة قد نضجت وأن «حزب الله» سيسبقه إلى مجلس النواب، قبل ان يكتشف أن الرمال المتحركة التي أغرق نفسه فيها لم توصله إلى برّ الأمان بعد. وإذا كان حينها قد ظنَّ أن الخلاف لن يطول مع الحريري، أدت المراوحة التي نتجت عن خلطه للأوراق السياسية، إلى ازدياد الشرخ بين معراب و»بيت الوسط»، من دون أن تؤدي إلى فتح خطوط بينه وبين حلفاء عون وتحديدا «حزب الله»، ناهيك عن تعبيره في حلقته الضيقة عن إحباطه مما آل إليه الموقف خصوصاً أن ثمة حديثاً عن تلقّيه وعداً عونياً، غداة تفاهم معراب، بحسم الموقف الرئاسي لمصلحة «الجنرال» سريعاً.
الرئيس نبيه بري واضح منذ البداية: مع فرنجية «على رأس السطح»، وضد عون «على رأس السطح». يرتاح لعلاقته مع الأول، ولم يستطع على مدى 10 سنوات أن يبني منسوب الحد الأدنى من الثقة مع الثاني. آخر تجليات الأزمة أن بري لم «يبلع» بعد تشكيك عون بشرعيته وبشرعية المجلس النيابي ودستوريته. أخذت الأمور منحى شخصياً ولم يستطع الاتفاق النفطي المفترض من تغيير مسارها، وقبل هذا وذاك، قرر «حزب الله» أن يقف في موقف المتفرج بينهما.
ولـ «حزب الله»، وهو حليف بري وحليف المرشَّحين الرئاسيين حسابات مختلفة. ليس الحزب مضطراً للدخول في أية معادلات داخلية تؤدي إلى اهتزاز «الستاتيكو» الحالي، وهو المدرك، على الأرجح، أن أوان الرئاسة لم يحن بعد. أولويته المطلقة الآن هي سوريا. ولا صوت يعلو على صوت البندقية في الجغرافيا السورية.. ولا سيما في «أم المعارك» حلب، حيث يقدم الغالي والرخيص في معركة يعتبرها «وجودية» بكل معنى الكلمة.
أما وليد جنبلاط المتعاطف روحياً مع فرنجية، فيقيم «حسابات جبل لبنانية» تجعله يخشى أكثر من غيره ما يمثله تفاهم ميشال عون وسمير جعجع. لذلك، قرر تحريك محركاته في أكثر من اتجاه خارجياً، ليكتشف، وهو العائد من باريس، «عدم نضوج الظروف الدولية والإقليمية لملء الفراغ الرئاسي».
ولقد بدا جنبلاط بالأمس مهتماً بعدم تحميل «حليفه المركزي والإستراتيجي» نبيه بري وحده مسؤولية فشل الحوار، الأمر الذي لاقاه الأخير بالتأكيد «لن اترك هنا حتى نصل إلى شيء ايجابي». وهذه الإيجابية، عبّر عنها بري من خلال طرحه لأكثر من اقتراح، يُتوقع بلورتها على شكل مبادرات اليوم أو غداً، وأبرزها ما يتعلق باستنساخ تجربة «الدوحة»، حيث اتُفق في اللحظة الأخيرة وقتذاك على تشكيل لجنة مصغرة لصياغة اتفاق ونجحت، فهل تتكرر التجربة.. ويكون الحوار الوطني مجدياً؟
مجريات الجلسة الأولى لا تبشّر بالخير. مراوحة مستمرة وصلت إلى حد إعادة استدعاء «مواصفات الرئيس» كإنجاز يسجل للجلسة، ويضاف إلى إنجاز الاتفاق على مرجعية «اتفاق الطائف»، وأهمية مجلس شيوخه ولامركزيته الإدارية..
وحده النائب محمد رعد خلط الأوراق من دون أن يعيد ترتيبها. واجه من يتحدث عن احترام الدستور وهو «يرفسه ساعة يشاء». وأكد أنه «لا يحق لأحد أن يقول إننا في موقفنا من موضوع الرئيس قد خرجنا على الدستور»، ليضيف: هل تريدون بلداً.. تعالوا لنتفاهم أم تريدون رئيساً بجيبكم؟».
التقط السنيورة هذه الإشارة، مستنتجاً من كلام رعد أن «علينا أن نتفق، تعني انه ليس المطلوب أن تفرض عليّ شخصا». فأعاد ممثل «حزب الله» التأكيد «نعم تعالوا نتفق، لكن لا يحق لك القول إننا نعطل الدستور»