كانت تمشي على استحياء عندما كانت القرية خالية من تجَّار الدين ، وعندما غطَّت اللحى سماء السطوح وغيَّمت القلنسوات والصولجانات على عقول البسطاء ، وامتلأت بطون القرية بالترانيم والأذكار ، خلعت خمارها وسيطر الخريف على جميع الفصول...لأنها رأت تاجراً من تجار الدين والناس الذين يروحون ويلوكون الدين والوعظ وكأنه راحة عزاء ، قد أرخى لحيته باسترسالها بعد كل خطبة وفريضة ويمرغ في أطرافها أسنان مشطٍ لتبقى أشبه بخيوط الحرير الملوَّنة كأفعى في عزِّ الحرِّ...وبسط سُبَّحته الطويلة المصنوعة من الفيروزج والعقيق اليماني ، ويُهمهم ويُتمتم بشفتيه العريضتين أوتاراً وأذكاراً، ويُدمدم دمدمةً خاشعاً وراكعاً وساجداً بين صلاتي الشفع والوتر، فنظرت إليه وعلمت بأنها أفخاخاً وحبائلاً يصنعها ويُحيكها سبَّاكاً وصيَّاداً ليصطاد عقول الناس الطيبة وتعلق بها خوفاً من نار الله التي تكوي وتشوي الوجوه ، فيعلقون في شباكه كما تعلق الحشرة في شباك عنكبوتٍ من زاوية بيتٍ مهجورٍ..... قصة مستوحاة من (رسالة الغفران) "للشيخ مصطفى المنفلوطي".. وغفت إغفاءةً طويلة لا علم لها بمداها لهول ما سمعت من الوعظ ، ثم صحت فرأت نفسها في صحراءٍ مكتظة من جميع ما خلق الله من خلق لا حصر لها وهم سُكارى لشدَّة الهول والفزع الأكبر ، فظنَّت أنه يوم الحشر وجاء يوم الحساب ، هنا تماسكت وليس لها من خلاصٍ وسبيلٍ ، فأخرجت من جيبها رسالة التوبة وذهبت إلى خازن الجنة عسى أن يقبل توبتها فلم يأبه لها ، فانصرفت عنه واتجهت إلى خازنٍ آخر فكان كصاحبه ، لكنه يملك شيئاً من الشفقة فقال لها عليكِ بذاك الواعظ...بينما  تبحثُ عنه وتتخلل الصفوف المزدحمة ،وتزاحم الواقفين والقاعدين والمنتظرين والنائمين ، إذ وقع بصرها عليه فرأت الواعظ في الدار الأولى ، وحوله مجموعة من الواعظين والمتفقهين في الآية والرواية والحديث وعلوم التفسير والتأويل وعلوم الجنِّ والسحرِ...وما إن وصلت إليه فلم تجد في جيبها رسالة التوبة ، فعلمت أنها سقطت منها في ذاك المعترك...هنا بلغ اليأس منها مبلغاً واشتعل رأسها همَّاً وغمَّاً وشيباً ، وتفكر في أمرها ومصيرها ، وإذ ترى من بعيد وجهاً يبتسمُ لها ويدنو منها رويداً فرويداً ، واقتربت منه وحينها عرفته ، هي جارتها الطيبة ، فسألتها هل حاسبكِ الله ، فقالت لها : حاسبني حساباً يسيراً وغفر لي ، فقالت في نفسها هان عليَّ حسابي...فهل تستطعين أن تشفعي لي شفاعةً عند واعظٍ من وعاظ الله ، فقالت لها لا تطلبين المُحال ولا تُصدِّقين كل ما يُقال، فقد كنَّا مخدوعين في دار الحياة بتلك الآمال الكاذبة ، التي كان يبيعها لنا تجَّار الدين والمذاهب بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودات ، ولا يتَّقون الله في غشَّنا وخداعنا ، وما الشَّفاعة إلاَّ مظهرٍ من مظاهر الإكرام والتبجيل ، يختصُّ به الله تعالى بعض عباده المُقرَّبين ، ولا يشفع عنده إلاَّ من ارتضى ، لأنَّ الله تعالى أجلّ من العبث ، وأرفع من المُحاباة...فما إن إنتهت جارتها من كلامها ، حتى رأت رجلاً مُحاطاً بملائكةٍ غلاظٍ شِدادٍ تُحيط به من زواياه الأربع وهو يبكي ويصرخ ويقول لقد أهلكني وعَّاظ الدين لقد إتبعتهم في دار الدنيا وأنا أعمل بسنَّتهم تحت الرُخص والمعاذير ، وما يسمُّونه بالحيل الشرعية...فترى الواحد منهم كان يهب أمواله لولده هرباً من دفع الخمس والزكاة قبل أن يحول عليها الحول وبنيَّته إستردادها ليهرب من دفعها للفقراء والمساكين والمحتاجين...وترى الواحد منهم يُقسم بالله قسماً غليظة ومعظَّمة بأن لا يدخل قصر زعيم وسلطان من بابه ولكنه يدخل عليه من نافذته...ويخطب بالناس مستحظرأ آيات الرحمان ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار وتراه يقف معه تحت حيلة الدفاع عن الدين والشريعة والمذهب...وتراه يُقسم ويمتنع عن أكل رغيفٍ لكنه يُقسِّمه نصفين هرباً من حنث قسمه ...فعمدتُ إلى تلك الأحكام الشرعية فانتزعتُ منها أحكامها وأسرارها ، ثم أرفعها إلى ربِّ السماء قشوراً جوفاءً ، لكن الله تعالى لا يُخدع ولا يَخدع عن جنته ، تعالى الله  علوَّاً كبيراً...فبينما هي كذلك رجعت إلى يقظتها بعد سكرتها ، فكانت أشبه بأضغاثِ أحلامٍ ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.