التسوية السياسية السورية تلوح في الأفق. هذه ليست نبوءة، إنها عبارة لمسؤول سوري كبير، ضنين بالتفاؤل طبعا، حذر وواقعي، وعارف لا مثيل له بمسارات الحرب على سوريا. وللمرة الأولى منذ خمسة أعوام، ساد فيها وهم إسقاط الدولة السورية لدى الكثيرين، لا تبدو العبارة استفزازا لمن آمنوا بذلك بشدة، أو راهنوا عليه فحسب، وإنما حتى لدى من اعتقدوا بقوة في المقلب الآخر أيضا، أن دمشق لن تسقط ، من دون المغامرة في التفاؤل، إلى حد تصور نهاية قريبة للحرب.
لا حسابات معقدة للخروج بمعادلة التسوية السورية التي أصبحت في متناول اليد، بحسب المسؤول السوري. لكنه التقدم في الميدان الحلبي، واستعادة المبادرة العسكرية، ومحاصرة الجيش السوري لـ٤٠ فصيلا جهاديا في قلب سوريا، تنعكس في مرآتها خريطة التدخل الإقليمي برمته. تبدو هزيمة الفصائل وحصارها في شرق حلب، انكسارا جماعيا لخمسة أعوام من الحرب وللدول التي سعرت أوارها، ضد دمشق: الولايات المتحدة والسعودية وقطر وفرنسا وبريطانيا وتركيا.
الحل الأمني هو الحل السياسي كما يبدو. الحل الأمني الذي ضمر تداوله منذ إصدار بيان جنيف في حزيران ٢٠١٢ واحتفاء به، يعود بجرعات كبيرة في طيات صراع تطور تدريجيا، من «ثورة»، إلى «حرب اهلية»، فحرب ضد الإرهاب، حيث لا تفاوض مع «داعش» أو «النصرة»، والمجموعات المسلحة التي تبايع السلفيات الجهادية، وهي أكثر ما نبتت في ميادين القتال السورية. ولا حل في النهاية، إلا الحل العسكري، لمصلحة هذا الطرف أو ذاك. أما لازمة لا حل في سوريا إلا الحل السياسي، فهي لازمة ديبلوماسية لا أكثر، وظيفتها تمرير الوقت، كالمؤتمرات التي عقدت في جنيف، ريثما تنضج معارك حلب، أو تتقدم القوات السورية، و «عاصفة السوخوي» نحو آخر معاقل «النصرة» في إدلب. الحل السياسي بات يختصر بعودة سلطة الدولة السورية، وتطبيع الأوضاع، قبل النظر في أي تعديلات هيكلية في مؤسسات الدولة أو غيرها. وكلما طالت الحرب، تراجعت شروط الحل إلى ما هو أكثر بدائية من أي إصلاح سياسي: السلام.
التفاهم الروسي ـ الأميركي أيضا في حده الأدنى يدفع باتجاه الحل. الأميركيون ليسوا طلاب حل سياسي في سوريا، آلاف الأطنان من الأسلحة التي تنطلق أسبوعيا من موانئ أوروبا الشرقية إلى الأردن وتركيا، تقول عكس ذلك، لكن الأشهر الخمسة الانتخابية الأميركية المقبلة تتيح انكفاء كافيا، ليصعد الدور الروسي في سوريا لضرب «النصرة»، العمود الفقري المسلح للمعارضة. ضرب «النصرة» أميركيا ليس واردا، في حسابات دمشق، ولكن أقصى ما يمكن انتظاره هو أن يغض الأميركيون الطرف عن حملة روسية واسعة على مواقع «النصرة» في سوريا. وهو قرار شديد الأهمية في تصور التسوية المقبلة وشروطها وأجندتها.
ومن دون «النصرة»، أو مع جبهة نصرة ضعيفة، لن تقوم قائمة للمعارضة المسلحة، خصوصا في الشمال السوري، في أرياف حلب وإدلب. ٣٠ في المئة من عديد المجموعات المسلحة يقوده أبو محمد الجولاني. الفرصة للذهاب نحو حل عسكري وتسوية على هذا الحل يتيحها، كما يقول المسؤول السوري، نفاد الوقت أمام الروس لعقد تفاهم مع الأميركيين في سوريا، واتجاههم نحو تصعيد الحرب والغارات من حميميم، واقتناعهم المتزايد، أن هيلاري كلينتون ستخلف باراك أوباما، وأنه من الأفضل تحسين مواقعهم في الميدان السوري، قبل وصولها، وقبل انطباق أضلع المثلث الأميركي المحارب والتدخلي من «البنتاغون» الذي ستديره ميشيل فلورنوي مرشحة كلينتون إلى وزارة الدفاع الداعية إلى توجيه ضربات إلى الجيش السوري، والمخابرات الأميركية، وأخيرا هيلاري كلينتون التي لن تتوانى كما يتوقع الروس عن التوسع عسكريا في الميدان السوري.
من المفارقات أن يتقاسم صقور المعارضة السورية من مجموعة الرياض الرهان نفسه: لا تنازلات سياسية في أي مفاوضات، وصبرا على الهزائم لأن سيدة البيت الأبيض سترد الصاع الروسي السوري صاعين، وسننتصر.
الروس بدأوا بالإعداد لما بعد باراك أوباما في سوريا. الاتفاقيات لإعادة أسراب الطائرات الروسية إلى سوريا، وضعت مجددا على الطاولة، والروس بدأوا بإعادة تأهيل سلاح الجو السوري، وإخراج أسراب «الميغ ٢١» القديمة، التي دخلت الخدمة في نهاية الستينيات، بعد تكاثر تعرضها لخلل تقني، وسقوط ٥ منها في شهر واحد. ولا خوف سوريا على تراجع الدعم الروسي. المسؤول السوري مطمئن: «التحالف مع الروس لا يتوقف على حلب أو معركة أو معركتين. الروس سيذهبون حتى النهاية في الصراع ضد الإرهاب في سوريا، وضد المجموعات المسلحة ليس من أجلنا، ولكن من أجل مصالحهم أيضا. دورهم في سوريا إعادة بناء موقعهم كقطب دولي. الروس استعادوا جزءا كبيرا من هذا الدور بفضل المصداقية التحالفية في سوريا. عادوا من سوريا إلى العراق الذي يجدد شراء أسلحتهم، ويطور علاقته بهم، حتى اللواء خليفة حفتر في ليبيا، يطالبهم بالتدخل والعمل معه في ليبيا، وهو زار موسكو، وفي مصر أيضا يصعد دورهم».
الانشغال الداخلي التركي هو أيضا في عناصر الدفع نحو التسوية. الانقلاب أخرج رجب طيب اردوغان رئيسا قويا. لكن تركيا ضعفت. إعادة هيكلة الجيش التركي وتصفية الأتاتوركية في الدولة التركية العميقة، ستؤديان إلى المزيد من استنزاف الأتراك، وإلى تقليص تدخلهم في سوريا، وإلى انصرافهم سنوات طويلة، لإعادة ترتيب أمورهم الداخلية. انتقال العدوى الداعشية إلى الداخل التركي، سينقل معه براعم الاحتراب الأهلي. ستون في المئة من أعضاء حزب «العدالة والتنمية» يعدون «داعش» فصيلا إسلاميا كغيره، أربعة ملايين تركي يرون في أبو بكر البغدادي زعيما من زعماء العالم الإسلامي. الحليف التركي للمعارضة المسلحة بعد التاسع من آب ولقاء اردوغان ببوتين قد يعيد النظر في تدخله في سوريا، وهو مجبر على ذلك بأي حال.
كما أن قواعد التسوية تصبح أكثر قربا وإمكانا، وأكثر تحديا واستفزازا لمن قدموا الكثير من التضحيات، لأنها لن تقوم على كل ما تم حتى الآن اختباره من قرارات دولية أو مبادرات أو مسارات خاضتها مجموعة دعم سورية في فيينا أو في جولات جنيف العقيمة. ذلك أن المعادلة السياسية لن تبنى إلا على الميدان، التسويات نفسها لا تقوم على الرغبات والتمنيات أو الحقوق؛ الفلسطينيون خبروا ذلك، التسويات لا تقوم إلا على موازين القوى، لا على المواثيق أو القرارات الدولية. بيان جنيف الذي قام على ميزان قوى متقادم، لم يعد صالحا كأساس للحل، خصوصا أن القوى التي تقاتل دمشق لا تملك قرارها السياسي، فضلا عن أن الجيش السوري اصبح الرقم الصعب في كل معادلات الحرب ضد الإرهاب.
إلا أننا، كما يقول المسؤول السوري، سنظل نذهب إلى جنيف مع قناعتنا بأنه لن يعقد في آب، وحتى لو عقد، فإن نتائج هذه الجولة لن تختلف عن سابقاتها.
التسوية أيضا هي المبادئ الإثني عشر التي سلمها بشار الجعفري إلى ستيفان دي ميستورا في جولات جنيف الأخيرة .
الألغام كثيرة لإضعاف السلطة المركزية، الموقع السوري لا يُحكَم إلا من دمشق، وينبغي أن يستمر في دوره كناظم لمصالح البر الشامي، وحاجز أمام التدخلات فيه، كي يبقى هو نفسه قائما، من خليج مرسين في الإسكندرون السليب، شمالا، حتى رمال العريش جنوبا.
التسوية في الواقع لن تقبل «الألغام التي سيودعها الأوروبيون والأميركيون في أي مفاصل للحل» يقول المسؤول السوري. حكومة سورية موسعة لا وجود فيها لألغام تأتمر بأوامر خارجية، وهذا ما يستبعد الكثيرين من المعارضة الائتلافية بشكل خاص. التسوية هي تعديل الدستور الذي سيأخذ علما بكل التغييرات التي أحدثتها الحرب، وهي الانتخابات التي ستُجرى على قاعدة الدستور السوري الجديد، لكن ليس قبل الانتهاء من معارك حلب، وأدلب.