إن وعي المسلم بملابسات الظروف السياسية التي كتب فيها تاريخنا يجعلنا نعيد النظر فيما كنا نظنه من قضايا الاختلاف،
فننهي ظاهرة إسقاط المفاهيم التاريخية على عصرنا ولا نتورط في إصدار الأحكام الجاهزة استناداً إلى أطوار تاريخية لا يجوز الاعتماد عليها كمرجعية معيارية صالحة في إصدار المواقف والأحكام. ومع علمنا بالنيات المغرضة لتدخل مراكز الأبحاث الأجنبية في تاريخنا الإسلامي فلا يصح أن تغدو مصدراً يتغلغل في كتب المسلمين ووثائقهم، ولاسيما فيما نراه من سموم الإسرائيليات في تراثنا التاريخي الإسلامي بعامة والمذهبي بخاصة. وما نرتجيه هو الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخنا الإسلامي وفق منهج يؤسس لثقافة الوعي بقيمة التسامح، ولاسيما أن مسألة المحاسبة والحساب هي من شؤون الخالق الذي لا تخفى عليه خافية, فلا نريد للمؤرخ المعاصر أن يحمل عصاه التاريخية ليطرد من يشاء من المسلمين من رحاب الإيمان والتوحيد، لكننا نريد له أن يحمل قلمه التاريخي لإحياء ما غاب عن الأمة من عروة الوحدة وملاءمتها مع معطيات الواقع المهموم بتوكيد استمرار الوحدة الإسلامية كحقيقة قرآنية ثابتة.
وبعد.. إذا كان للتاريخ الإسلامي في مدوناته الأولى خصائص القرب من زمن الحدث إلا أنه على هذا القرب النسبي لا يكاد يقطع فيه بالقول الفصل على وجه اليقين، ولاسيما فيما يتصل من تسجيل تلك الوقائع التي كانت موضوعاً من مواضيع الاختلاف على تفسير عواملها ونتائجها.
وقد ظهرت ملامح هذا التباين منذ السنوات الأولى من تدوين السنّة النبوية الطاهرة وما رافقها من تدوين أسباب النزول القرآني، ليتأثر فيما بعد بمناخات نشوء الفرق السياسية والمذاهب الدينية، وليس من المصادفات أن يمتد هذا الخلاف إلى تاريخ الأدب والفلسفة والفقه وعلم الكلام فما نسب في كتاب تاريخي عن بعض الأئمة والأدباء والفقهاء سنراه منسوباً في كتاب آخر إلى غيرهم من الرجال.
ولا سبيل إلى القطع بصواب النسبة إلا بالرجوع إلى علم التاريخ وعلم الآداب وعلم الحديث، وقد عرف المسلمون الأوائل مناهج هذه العلوم فيما اصطلحوا عليه بوجوب الاعتماد على دليل قاطع من العقل أو من النقل، فحافظوا على قيم إبداعاتهم الحضارية من قبل أن تمسها أيدي الاستشراق الاستعماري الذي أعاد صياغة تاريخنا ملغوماً بقواصم الفتن.
ومع هذا كله فقد فعلت كتب التاريخ والسير فعلتها في توسيع شقة الاختلاف بين المسلمين. وما يعنينا من هذه الإشارة هو تحصين الوحدة الإسلامية من مضخات الزمن التاريخي وأثره في تأجيج الفتن بين أبناء الدين الواحد والأمة الواحدة.
ومن هنا فإن منهاج -التبين والتثبت- مطلوب بنصوص القرآن ومطلوب بالعقل والبداهة بصريح التوجيه القرآني: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» [الإسراء:36].
ها هنا تأتي أهمية الدعوة إلى تصحيح ما كتب في تاريخ الملل والنحل للوقوف على جوانب المشتركات وقرابة المذاهب الإسلامية بعضها مع بعض، لا بدوافع توليفها وإنما بدافع نقد الصور النمطية التي لا تمت إلى واقع مذاهبنا بصلة. وإذا كان من واجب المؤرخ أن يثبت أو يبطل ما بين يديه من الأخبار والروايات المنقولة إليه، وإذا كان من واجب علم التاريخ تحليل المعلومة التاريخية ومحاكمتها تمهيداً لتنقية تراثنا التاريخي من دوافع الدس والكذب والافتراء، فإن من واجب الدعاة الاحتكام إلى أدب القرآن في فض الخصومات الدينية حول الأشخاص والأحداث على قاعدة البيان القرآني.
ولا يجوز، في علم التاريخ، أن نستحسن الأحداث التي توافق عقيدتنا الدينية أو نستنتج منها تلك التي لا توافقها، فلا نريد أن نقرأ تاريخنا بعيون المدح والتمجيد، ولا بعيون المتأوه المتأفف، وإنما بعيون العلم الذي يبحث عن الحقيقة التاريخية ومعناها في واقعنا الحديث.ولكيلا يكون التاريخ مزلة للعقول فإن الدفاع عن الذاكرة التاريخية لا يستتبع بالضرورة أن نقع في فخ ملابساتها وأهوائها التي لم تكن بمنجاة من التزيد والافتراء.
الشيخ حسين أحمد شحادة