الحرمان الذي تعانيه الهرمل منذ عقود يدمر مقوّمات العيش فيها، إذ لم تنشأ فيها المصانع ولم تنجح فيها الزراعات البديلة ولا حتى التقليديّة، ولم يبقَ لأهالي المنطقة سوى "نهر العاصي" موقعاً حيوياً لتنفيذ مبادراتهم الفرديّة عبر إنشاء المتنزهات والمطاعم ونوادي الرياضات المائيّة وأحواض تربية سمك "الترويت"... كان ذلك قبل تلوّث مياه النهر، الذي يهدّد بإطاحة مصدر رزقهم شبه الوحيد.
قبل عام، تحرّكت وزارتا الزراعة والصحّة العامّة لمكافحة تلوّث مياه "نهر العاصي" بجرثومة "السالمونيلا"، على خلفيّة شكاوى تقدّم بها أبناء المنطقة بسبب الروائح الكريهة التي تفوح منه، نتيجة اعتماد مربي الأسماك على امعاء الدجاج علفاً أساسياً لإطعام أسماك الترويت، وصدر عن وزير الصحّة وائل أبو فاعور قرار يمنع استعمال مخلّفات مسالخ الدجاج طعاماً للترويت، أتبع بعمليّة تنظيف واسعة للنهر بإشراف اختصاصيين.
لكن هذه الحال لم تدم طويلاً! استناداً إلى تقرير مراقبي وزارة الصحّة تنتشر على ضفاف النهر، الممتدّ من نبع عين الزرقا في الهرمل إلى منطقة الشواغير، نحو 140 مزرعة لتربية أسماك الترويت والسلمون، إذ تعدّ مياهه بيئة نموذجيّة صالحة لنمو الأسماك، نظراً إلى غناها بالأوكسيجين والحموضة، إلّا أن تجاهل مجموعة من مربي الأسماك قرار وزارة الصحّة، ومعاودة تخزين هذه البقايا لاستعمالها علفاً باتا يشكّلان مصدر التلوّث الأكبر لمياه النهر.
هكذا تحوّلت ضفاف النهر حيث تنتشر الاستراحات إلى واحة تفوح منها الروائح الكريهة وتكثر فيها القوارض والحشرات والبعوض، يهرب منها السيّاح والزبائن، مؤثرة على أعمالهم من جهة، وعلى صحتهم من جهة أخرى، بحسب ما يؤكّد علي عابدين أحد أصحاب هذه المتنزهات.
يردّ عابدين أسباب تفاقم المشكلة إلى "الرخاوة الأمنيّة في التعاطي مع الخطر الذي يهدّد مصدر رزق مئات العائلات في المنطقة والسماح بتلويث بيئتها"، مضيفاً أن "سياسة غض النظر على كثير من المخالفات هي السائدة، إذ يسمح للمهرّبين بالتنقل بحريّة من مزارع ومسالخ الدجاج في بيروت، وصولاً إلى الهرمل، ولا يُراقب مربّو الأسماك الذين يستعملون مخلفات الدجاج علفاً للأسماك، إضافة إلى تسوية محاضر الضبط التي تنظّم ببعض المخالفين".
لا يدمّر مربّو الترويت قطاع السمك فقط، وإنمّا النهر بأكمله، بحسب المشرف البلدي على معمل إنتاج وتصنيع علف الأسماك في الهرمل، يوسف محفوظ، إذ "يعتمد هؤلاء امعاء الدجاج بدلاً من شراء العلف الطبيعي من باب التوفير. فسعر طن العلف المستورد يصل إلى 1800 دولار، وسعر طن العلف المصنّع في معمل الهرمل يبلغ 1450 دولاراً وهو ذو جودة غذائيّة بيئيّة عالية مثبتة علمياً، فيما يبلغ سعر طن مخلّفات الدجاج 250 دولاراً، من دون أن يؤمّن سوى 20% من الغذاء المطلوب للأسماك، ما يؤدي إلى نفوق عدد كبير منها موسمياً، وتلويث البيئة المحيطة ومجرى النهر".
نتيجة تفاقم المشكلة، واستناداً إلى تقارير المراقبين وشكاوى أهالي المنطقة، طلب أبو فاعور من وزير الدفاع الوطني سمير مقبل "ضبط الشاحنات في المنطقة الحدوديّة الشماليّة والمحمّلة بمصارين الدجاج"، كما طلب من وزير الداخليّة والبلديات نهاد المشنوق "منع هذه الشاحنات من الدخول واتخاذ الإجراءات اللازمة بحقّهم".
رحّب الأهالي بالقرار وطالبوا بـ"ضرورة متابعة تنفيذه من الوزارات والأجهزة المعنيّة بشكل متواصل ودائم تفادياً لعودة عمليّات التهريب، وملاحقة المهرّبين الذين يتحصّنون بتراخيص مزارع خنازير لا وجود لها في المنطقة"، يشدد نائب رئيس بلدية الهرمل عصام بليبل على أن يشمل قرار وزير الصحة "مراقبة مسالخ ومزارع الدجاج في بيروت والبقاع التي تنقل منها البقايا الحيوانيّة، ومكافحة عمليات التهريب عبر شاحنات تمرّ على عشرات الحواجز الأمنيّة، والتشدّد في تسطير محاضر الضبط وعدم تسويتها بعد تنظيمها".
( الأخبار)