الجزء الثاني من الرسالة الموجهة الى دولة رئيس المجلس النيابي اللبناني في معرض دفاعه عن صمود انظام السوري ووجود حزب الله في سوريا
إن كنت تسمي ما يحصل في سورية ثورة، أو كنت تسميه ارهابا, فالأمر سيّان. وإن كانت هذه الثورة\الارهاب سلمية أم مسلحة، فالأمر أيضاً سيان، لأن كل هذه المسميّات لن تلغي حقيقة أن النظام السوري يستعمل دباباته وأسلحته لقتل شعبه والإيغال عميقاً في الدم، في حين لم يستعملها على “إسرائيل”، ولم يستعملها لتحرير فلسطين، ولم يستعملها لتحرير الجولان، بل ولم يستعملها لدعم “حليفه” حزب الله أثناء الاعتداءات الصهيونية المتكررة على لبنان. كما لن تلغي أي من هذه المسميات حقيقة أن النظام السوري نظام فاسد، ونظام قمعي دموي، ونظام طائفي جذّر الطائفية في سوريا ويستفيد من امتدادها، وأن هذا النظام مسؤول بشكل مباشر عن تبعات الفساد والطائفية والتقسيم والتمييز الطائفي والاثني وانعدام العدل الاجتماعي وانعدام الحريات مثله مثل أي نظام رسمي عربي آخر، ويمارس الانتهازية ويلعب السبع ورقات ليبقى في مكانه في السلطة محافظاً على امتيازاته، لا لتبقى “القضية“.
هل البديل عن النظام هو الفوضى أو الإسلاميين؟
لا يوجد “دولة” أصلاً في “سورية الأسد” بالمعنى العلمي ليتم تقويضها باتجاه الفوضى.
النظام الرسمي العربي لم يبن “دولة” في أي من أقطاره. ما يوجد في الواقع هو فوضى تفتيتية الطابع (قائمة على الفصل الطائفي أو الاثني أو الديني أو الجغرافي أو الشرائحي أو الطبقي، والحكم بواسطة العائلة أو الطغمة أو الطائفة) مُتحكم بها بقوة القمع والمصالح، لذلك لن يكون هناك تحوّل في الحالة السورية (أو في أية حالة قُطرية أخرى) من “الدولة” الى “الفوضى”.
أي تحوّل مهما كان (باستثناء الخضوع للاحتلال المباشر كما في حالة العراق) سيكون باتجاه الدولة، وسيكون تحوّلاً إيجابياً. أما التخوّف بأن تخضع البلدان العربية لاحتلال غير مباشر بعد سقوط الانظمة فهذا قول مردود، لأن البلدان العربية تخضع في ظل الانظمة إياها لاحتلال غير مباشر.المجتمعات العربية عموماً لم تصعد باتجاه التوافقات المدنية الكبرى بعد.
جزء كبير جداً من تعطيل ذلك كان بسبب الأنظمة التي رعت وشجّعت الانقسامات الضرورية لبقائها بأشكال مختلفة. وإن كان صندوق الانتخاب سيفرز على الاغلب القوى الاسلامية (التي تحارب الفنون وتقمع حرية الرأي وتهتك بالحريّات الاجتماعية)، فليكن! ان كانت تلك “ارادة الشعب” فليذق الشعب من كأس السم الذي صبه بيده، لكن توقع تلك النتيجة لا يعني ان يكون الاصطفاف مع القاتل الانتهازي الطائفي العميل (اي النظام الرسمي العربي) في مواجهة البديل الشعبي “الرجعي” او “الفوضوي“.
إقرأ أيضًا: هذا ليس صمودا يا دولة الرئيس بل نحر للامة
نحن معشر التقدميين والقوميين واليساريين والعلمانيين ليس لدينا مشاريع جاهزة في أي من دول الانتفاضات، ولن نستطيع أن نقدّم البديل أو أن نسدّ الفراغ لأسباب عديدة لا مجال لتعدادها هنا، وليس لدينا خطط استراتيجية للتعامل مع الموقف، ولا نحن منظميّن، وتنظيماتنا الموجودة ضعيفة ومفككة ومفرغة من الانتاج المعرفي والكثير منها تابع للسلطة أو مرتبط به، والواقع على الأرض لا علاقة له بتخيّلاتنا عما يجب أن يكون عليه الواقع. هل البديل عن عجزنا وضعفنا هو أن نصطف إلى جانب الانظمة القمعية؟
إن لم تكن الانتفاضات التي لم نصنعها نحن على مقاسنا نحن بالضبط (وكيف سيحصل ذلك؟!)، هل سنقف ضدّها؟ الأمر يشبه السؤال الذي طرح قبل سنوات عن الموقف من المقاومة: إن كان من يطلق النار على “إسرائيل” إسلامياً، مع من نقف؟ إجابة السؤالين واضحة، نقف مع انتفاضة الناس ضد الانظمة القمعية الطائفية الفاسدة العميلة، ومع المقاومة الاسلامية ضد “اسرائيل”، هذه هي الاجابة القومية الوطنية التقدمية.لكن الأهم، هو أن القطاعات العريضة من الناس التي كسرت حاجز الخوف وقدّمت الشهداء واختبرت قوّتها الحقيقية في الشارع، لن تتوانى عن الاحتجاج في الشارع ضد أي ظلم قادم.هل ما يحصل في سورية ثورة؟
ولا واحدة من “الثورات” العربية هي ثورة بالمعنى العلمي للكلمة. ما حصل ويحصل في بلداننا العربية هي انتفاضات قطعت الشوط الأول بازاحة الانظمة (وهي خطوة هامة وجبارة الى الامام) وما زالت غير قادرة على انجاز الشوط الثاني لتصبح ثورة:
احلال نظام اقتصادي/اجتماعي/سياسي جديد بدلاً من القديم، وذلك لعدم وجود حامل طبقي لهذه الانتفاضات، وعدم وجود أرضيات فكرية/ايديولوجية لها، وعدم وجود حزب سياسي أساسي قاد/يقود التغيير.الايجابية الكبرى والأساسية لهذه الانتفاضات هي كسر حاجز الخوف ونزول الناس الى الشوارع وإسقاط أنظمة، هذا أمر لم نعرفه في تاريخنا لا القديم ولا المعاصر.
هذا أمر لا رجعة عنه: لا يمكن أن تنمحي هذه الممارسة والخبرة التاريخيتين من العقل الجمعي للناس، كما لا يمكن أن تزول آثار اختبار الناس لقوتها في الشارع، وهو ما سيعني أن ثقافة الاحتجاج وإزالة الأنظمة وكسر أي قداسة محيطة بالحاكم أو نظام الحكم ستصبح ثابتاً جديداً في بنية العقل العربي.الايجابية الثانية أنها فضحت انتهازية وكذب مجموعة كبيرة من المثقفين والسياسيين من ذوي المعايير المزدوجة، الذين لطالما هاجموا النظام الرسمي العربي بصفته مانعاً من موانع التحرر وراعياً للقمع والفساد والتقسيم، ويهاجمون حكوماتهم المحلية بصفتها حكومات فاسدة وقمعية، واذ بهم يدافعون بشراسة عن أنظمة دموية مثل نظامي القذافي والأسد،
استنتاجات سريعة مما سبق1.
الانظمة الرسمية العربية هي أنظمة فاسدة تكرّس التفتيت، وهي معنيّة فقط ببقائها في الحكم واستمرارية امتيازاتها، وهي غير معنية لا بالاصلاح ولا بالديمقراطية ولا بالتحرر ولا بمواجهة “اسرائيل“.2.
الانظمة الرسمية العربية هي المؤامرة الخارجية لأنها نشأت أساساً انطلاقاً من التقسيم الاستعماري للمنطقة وبموافقته، وهي أنظمة تابعة لا سيادة لها، ويتم التخلص منها أو التخلي عنها أحياناً (وبحسب المعطى السياسي والاستراتيجي) لا لأنها “وطنية” أو “قومية” أو “ممانعة” أو “مقاومة”، بل لأنها فقدت فوائدها.3.
التمرد على الأنظمة العربية وإزاحتها عن الحكم هو خطوة كبرى الى الامام، وبدون استثناءات.4.
زوال هذه الانظمة هو الخطوة التاريخية الأهم، وما بعد ذلك ليكن ما يكون بدلاً من تخيّل الواقع القادم على مزاجنا، وعوضاً عن التحسر، لنكن جزءً من تشكيل الواقع القادم.في النهاية
دعونا لا نحمّل هذه الانتفاضات آمالا أكثر مما هي عليه من انفجار للغضب الشعبي يريد إزالة الأنظمة القائمة دون بديل واضح. هكذا سيستقيم فهمنا لها، ويصبح علينا جميعا عبء حمل المرحلة القادمة.