مجموعة مشاريع وسياسات دفنت في الأيام الأخيرة في حلب. أوّلها، اندثار دويلة في الشمال ترعاها تركيا والخليج بخروج العاصمة عن «السمع والطاعة». فشل هذا المشروع تبلور في تطورات الساعات الأخيرة بعد تراكم إنجازات محور دمشق في حلب، تُوّجت بتثبيت الحصار على الأحياء الخاضعة لسيطرة المسلحين وخروح حيّ بني زيد من «الخدمة».

باكتمال طوق حلب، يُقفَل باب رئيسي من أبواب تقسيم سوريا، وتُغلَق نافذة كبرى أراد محور أميركا ــ تركيا ــ السعودية وحلفاؤه استخدامها لليّ الذراع السورية ــ الروسية في المفاوضات، ولاستعادة القدرة على تهديد وجود النظام السوري، فيما لو تمكّن مقاتلو الفصائل المعارضة من إخراج عاصمة الشمال برمّتها من كنف الدولة السورية. يكفي للدلالة على أهمية ما جرى أمس، التذكير مجدداً بما قاله حقان فيدان، مدير الاستخبارات التركية، أمام نظراء له عام 2013. حينذاك، قال الرجل بثقة: عندما نأخذ حلب، ستسقط باقي المناطق السورية، مهما حقّق النظام وحلفاؤه من إنجازات في الوسط والجنوب.
يمكن بسهولة القول إن تاريخ إكمال الطوق حول حلب، هو واحد من سبعة منعطفات كبرى في الحرب: غزوة دمشق الكبرى وتفجير مبنى الأمن القومي وغزوة حلب الكبرى وسقوط أحيائها الشرقية بيد المعارضة في تموز 2012؛ تطويق الجيش وحلفائه لغوطة دمشق الشرقية في نيسان 2013 وحماية العاصمة ثم بدء تحرير الحدود اللبنانية ــ السورية؛ صفقة الكيميائي في أيلول 2013؛ إعلان الخلافة الداعشية في حزيران عام 2014، ثم بدء التدخل الأميركي في العراق فسوريا؛ اندفاعة المعارضة في إدلب ربيع عام 2015؛ دخول سلاح الجو الروسي الحرب في أيلول 2015 وصولاً إلى هدنة شباط 2016؛ ثمّ... تطويق الجيش لمدينة حلب.
كان للانعطافة الحلبية أصداء واسعة دولياً. ظهرت موسكو في دور الظهير الذي يحمي الإنجاز الميداني في أروقة الصراع مع واشنطن، لتمنع «فيتو» رُفع مراراً عند كل تلويح بإطلاق معركة في عاصمة الشمال. حق النقض هذا كان روسياً أيضاً يوم إعلان اتفاق الهدنة، لكن في حكم «التجربة» ظهر أن واشنطن تريد في الحد الأدنى «الحفاظ على الوضع القائم» في ساحات القتال البعيدة عن «داعش».
قبل أسابيع، أشارت مصادر سورية لـ«الأخبار» إلى «حسم» موسكو موقفها بالنسبة إلى طوق حلب. مصادر أخرى في «محور المقاومة» أكدت «رؤية» روسيا الجديدة. سريعاً، بدأت قوات الجيش والحلفاء بنقل عدد كبير من الوحدات العسكرية إلى الشمال. كانت الخطة معدّة سلفاً، وفي وجهة «المحور» قرار بفتح معركة حلب حتى لو لم يشارك فيها الجانب الروسي.
على مدى 50 يوماً، ظهر العمل على جبهة حلب بطيئاً. لا موجات هجومية كبيرة على شاكلة ما حدث في معارك الريف الجنوبي. بُلعت «الموسى» رويداً رويداً، فجاء تحرير مزارع الملاح على دفعات، وعلى النحو ذاته جرى التقدّم في محور الليرمون وحيّ الخالدية، جنوب طريق الكاستيلّو. ظهرت الأمور أنها ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، بالتوازي مع إجهاض هجمات مضادة عنيفة من قبل المسلحين.
دُفنت، بعدها، المبادرات «الارتدادية» بعد إقفال طريق «الكاستيلّو» بالنار، ليتم الإطباق في اليومين الأخيرين على الطريق، وصولاً إلى دوار الليرمون، ليسقط معهما حيّ بني زيد المحاصر. طوال تلك المدة كانت الطائرات الروسية تؤمن غطاءً نارياً كثيفاً يُذكّر بمعركة فك الحصار عن نبّل والزهراء.
اليد الروسية في الجو، ظهرت على الأرض بتحرّك القوات الكردية في الشيخ مقصود نحو «السكن الشبابي»، لتساهم في الإطباق على حيّ بني زيد. عضو «المجلس المحلي» في الشيخ مقصود، عبد القادر موسى، أكد لـ«الأخبار» أن «التقدم المزدوج للجيش (السوري) والوحدات (حماية الشعب الكردية) تم بالتنسيق الكامل مع الجانب الروسي، المشرف على العمليات العسكرية في المنطقة».
تُركياً، تبدو ملامح ضعف الحيلة ظاهرة على وضع المجموعات المرتبطة بأنقرة. فالمقاتلون التركمان يرون في اللاذقية معركتهم الأم، أما «حركة أحرار الشام» فرفضت المشاركة في المعارك الأخيرة، لأنها «انتحار عسكري»، واكتفت بحضور رمزي بعد اتهام «النصرة» بالتفرّد بزعامة حلب.
عملياً، تبتعد «دولة أردوغان» عن مصادرة القرار الكامل في الشمال. نصف الاستدارة نحو موسكو، معطوفاً على الهزة الانقلابية الداخلية، جعلاها تقف موقف المشاهد المنكفئ إلى ترتيب أوضاعه الخاصة. ليس في يدها حيلة، ونزهة دباباتها في الأراضي السورية لم تعد متاحة. المشهد الحلبي يلفظ أنقرة في مراحله الحالية، رغم أنّ ردود الفعل منتظرة من «النصرة» (سابقاً) وأخواتها، حيث يُحاصر آلاف المسلحين داخل المدينة... وعلى بعد عشرات الكيلومترات تغلي أرياف حلب وإدلب.