وفي الأسبوع السابع انتصر، واستراح. وخلال الساعات الماضية تجاوز الجيش السوري والحرب في سوريا، من بوابة حي بني زيد شمال المدينة، الخطوط الحمراء الأميركية والتركية. وليس مبالغة أن استعادة الحي وتطويق آلاف المسلحين شرق حلب، وقطع خطوط إمدادهم مع حاضنتهم التركية والأميركية، يعني الانتصار في قطع البؤرة السورية المشتعلة عن وقودها الخارجي الأساسي للمرة الأولى منذ خمسة أعوام.
وهي المرة الأولى التي يتقدم فيها الجيش في مدينة كبيرة وأساسية كحلب، تمثل بوابة الحرب السورية بأكملها. وغامر مسؤول سوري كبير بالقول لـ «السفير» إن اقتحام حي بني زيد يفتح جديا بوابة الحل السياسي في سوريا، بشروط سورية طبعا.
وتمثل مسارعة الرئيس السوري بشار الأسد إلى إصدار عفو عن كل من حمل سلاحا، بغض النظر عن الأسباب، والدعوة إلى مصالحة وطنية، فور الإعلان عن الانتصار الحلبي، محاولة للالتفاف على دعوات الحلول الغربية، وإرساء معالم حل داخلي بشروط سورية، وتقوية عناصر الحل السوري الداخلي، واغتنام فرصة انتصار حلب لتقليص قدرة الأميركيين والأتراك على المناورة، في لحظة انشغالهم الداخلي، والإمساك بمبادرة تتجاوز إملاءات جنيف، لكن الشراكة الداخلية لا تزال تنقصها حتى الآن.
وجلي أن الفرصة لتطوير المعركة نحو انتصار أكبر وأوسع في أم المعارك السورية حلب، تقترب أكثر فأكثر، مع تطابق الموقف الروسي ـ السوري، واستخلاص الروس لعبر هدنة شباط الماضي الفاشلة. ولن يتكرر خطأ إيقاف العملية العسكرية الحالية، قبل استكمال هدف القضاء على المجموعات المسلحة شرق حلب، إذ لم تصل هدنة شباط، التي أوقفت «عاصفة السوخوي» عند مشارف التحول الميداني، لا إلى تحريك العملية السياسية في جنيف، ولا إلى إقناع المعارضة أو الدول الإقليمية بتقديم أي تنازلات سياسية، تاركة الروس أمام خيار الهزيمة في سوريا والانسحاب، أو الاندفاع نحو دفع تكاليف الانتصار. وكان واضحا ما قاله وزير الدفاع الروسي في انعدام التوجه نحو أي هدنة في حلب، أو الرضوخ لأي ضغوط أميركية أو غربية، إذ قال سيرغي شويغو: «دعونا مرات عدة المجموعات المسلحة لوقف إطلاق النار، لكن المقاتلين انتهكوا الهدنة في كل مرة، وقصفوا مناطق مأهولة، وهاجموا مواقع القوات الحكومية».
وباقتحامه حي بني زيد الحلبي، تَوَّجَ الجيشُ السوري اليوم التاسع والأربعين لمعارك حلب، في هجوم خاطف استغرق ثماني ساعات، لم يواجه فيه مقاومة عنيفة، لا من «جبهة النصرة» ولا من «جيش المجاهدين»، التي تلقت أوامر عند الفجر بالانسحاب من الحي، بعد أن كانت «الفرقة ١٦» قد أخلت مواقعها على عجل أيضا، وانسحبت لتفاوض مندوبي غرف العمليات في الجيش على تسليم أسلحتها، وممر آمن.
ولا يعود الانتصار إلى معركة الساعات الثماني الأخيرة، بل إلى عملية مديدة بدأت في الثلاثين من أيار الماضي . فخلال الأسبوعين الأولين من حزيران، نفذ الروس أكثر من ثلاثة آلاف غارة في شمال حلب ومن بينها ألف غارة على مناطق حندرات والبريج. ولم تتحرك قوات العقيد النمر نحو أهدافها إلا في العاشر من حزيران، بعد أن تلقت خطوط الإمداد مع تركيا ومستودعات الأسلحة، والبنى التحتية للمسلحين ضربات جوية كثيفة، أدت إلى شلها. وتحولت مزارع الملاح إلى مصيدة للتعزيزات من آلاف المقاتلين من جماعة «نور الدين الزنكي» و «جبهة النصرة» ، و «جيش المجاهدين» ، و «الجبهة الشامية» التي فقدت مجتمعة بحسب مصادر في غرفة العمليات السورية، ما يقارب الخمسة آلاف مقاتل بين جريح وقتيل. وتعرضت «نورالدين الزنكي» إلى خسارة ثلثي قدراتها العسكرية التي مثلها ٨ آلاف مقاتل قبل بدء عمليات اقتحام مزارع الملاح.
أحدث الجيش السوري في عمليات مزارع الملاح وحي بني زيد، تغييرا تكتيكيا كبيرا في عملياته الهجومية، إذ قاد العقيد النمر سهيل الحسن، عمليات خاطفة ومنسقة، اتسمت بالسرعة في الهجوم المباشر بعد التمهيد الناري الجوي والصاروخي، من دون أن يترك للخصوم فرصة إعادة ترميم خطوطه او إرسال تعزيزات، وهي ثغرة كبيرة في بعض عمليات وحدات الجيش التي كانت تنتظر ساعات للهجوم بعد التمهيد الناري. واعتمد الحسن بكثافة على طائرات الاستطلاع لتحديث استخباراته، وتكييف العمليات مع التغييرات الميدانية بسرعة فائقة في مواجهة قوات تعتمد أساليب حرب العصابات بالانسحاب أمام أي هجوم واسع وإعادة التجمع لضرب العدو، بعد انخفاض وتيرة القصف، وهي مرونة سمحت له بالتقدم بسرعة، والاعتماد على سلاح المشاة للاقتحام، في منطقة لم يتوقعها المسلحون، خصوصا أن عمليات الخريف الماضي ما قبل الهدنة لم تشملها، وانتظرت نهاية أيلول لكي تتلقى الضربات الجدية، وبشكل تصاعدي من الجيش السوري و «السوخوي» الروسية.

الإنجاز يبدو مضاعفا ميدانيا وسياسيا

فميدانيا، يمتلك الإنجاز السوري عناوين كثيرة تتفرع محليا وإقليميا . ومن دون ترتيب، يبرز مباشرة من الآن، إغلاق الجيش السوري الطوق على أكثر من عشرة آلاف مسلح في القطاع الشرقي من المدينة، ومحاصرة الذراع التركية في المدينة التي تتألف خصوصا من المجموعات التي تديرها المخابرات التركية: من «النصرة»، فـ «نورالدين الزنكي» ، فالتركمان من مجموعات «ألوية السلطان سليم»، و «جيش المجاهدين». وبدأ التقدم في الشمال الشرقي نحو مخيم حندرات الذي أصبح مطوقا من الشمال والشرق والجنوب، لفتح ممرات جديدة لحلب الغربية التي لا تملك سوى معبر واحد من حي الراموسة جنوبا، والتوسع قريبا نحو كفر حمرة غربا، لإغلاق طرق الإمداد بين إدلب وحلب، والتي تحولت في معارك الأسابيع السبعة، إلى الممر الحيوي للأتراك والأميركيين وغرف عمليات أنطاكيا، لنقل المئات من المقاتلين والأسلحة. كما تطورت المعركة إلى قتال مع وحدات «إدلبية» دفع بها إلى حي بني زيد، بعد أن اختار «الحلبيون» لا سيما في «الفرقة ١٦» الانسحاب من معركة خاسرة سلفا.
لكن العناوين الميدانية للإنجاز، تتسع لأكثر من مجرد دخول أحد الأحياء الحلبية، وأعرضها على الإطلاق إسكات «مدافع جهنم» فيه، ومرابض الصواريخ، التي حصدت ثمانية آلاف مدني في غرب حلب، وهي لحظة طال انتظار مليون ونصف المليون من أبناء المدينة لها، منذ أن غزا التحالف التركي السلفي الإخواني، بمقاتلي الأرياف الحلبية الفقيرة، القطاع الشرقي من عاصمة سوريا الاقتصادية، في التاسع عشر من تموز العام ٢٠١٢. كما أن إلحاق الهزيمة بـ «جبهة النصرة» في الشمال السوري، يعني افتتاح مرحلة انكفاء أمام أبو محمد الجولاني، قبل ساعات من انكشاف وجهه وفك بيعته للقاعدة، وانصياعه للنصائح التركية القطرية، للمساعدة على إعادة تدويره في الحرب السورية، ومنع التفاهم الروسي الأميركي غير المكتمل أصلا، من الذهاب إلى النهاية لوضع «النصرة»، شرعيا، في مرمى الضربات الجوية الروسية، علما أن الولايات المتحدة لم توجه، ولن توجه أي ضربة إلى «النصرة»، باستثناء «مجموعة خراسان» في سرمدا وإدلب، في ظل تدهورعلاقاتها بتركيا والسعودية. كما لا يزال البنتاغون والمخابرات الأميركية، يرفضان توجيه أي ضربة إلى العمود الفقري للمعارضة السورية المسلحة، وهو ما يعنيه بالضبط التفاهم الأميركي الروسي في هذا، لو حصل فعلا. وهو بأي حال يمهد لو حصل، لجهوزية أميركية للتضحية بالمجموعات المسلحة في سوريا، والقبول بالدخول في صفقة سياسية تنهي الحرب في سوريا، وهو أمر لا يزال بعيد المنال.
ولا يخالج أيا من البنتاغون أو المخابرات الأميركية التي تتبع إستراتيجية الاستنزاف تجاه الروس والإيرانيين وحزب الله والجيش السوري، كما لا يتجاوز لجوء الإدارة الأوبامية إليه، عتبة الاهتمام بتوريث إدارة هيلاري كلينتون المقبلة، معارضة سورية قادرة على مواصلة الحرب، بعد أن أخفقت في الانتصار فيها، وإسقاط النظام السوري.
وميدانيا أيضا، واجه السوريون تحالفا أميركيا - تركيا فعالا على الأرض لمنع الجيش السوري من التقدم في حلب، بخلاف كل ما ذهبت إليه التأويلات بشأن الانشغال الداخلي التركي ما بعد الانقلاب، عن سوريا، أو تراجع الانخراط الأميركي في قيادة الهجوم المضاد، بعد التفاهم مع روسيا، للتقليل من أهمية الإنجاز السوري، إذ استمرت طلعات الأواكس التركية منذ الرابع من تموز في طلعاتها التجسسية فوق المواقع السورية، لتزويد المجموعات المسلحة بها. وفي الثاني من تموز نقلت «شركة جوخدار» للنقل التركية في عينتاب، كتيبة مدرعات لفرقة الحمزة في شمال سوريا، كما لم تتوقف محاولات إرسال أرتال التعزيزات من إدلب باتجاه حلب. وارتفعت نسبة إطلاق الصواريخ المضادة للمدرعات، لا سيما «الكورنيت» التي أطلق منها ما يقارب الأربعين صاروخا. وظهرت للمرة الأولى في المعارك صواريخ «هار ٦٦» التركية المضادة للمدرعات، والمعدلة عن صواريخ «لاو ام ٧٢ « الأميركية. ولم يغير التفاهم الأميركي الروسي في الجهد الأميركي لدعم المجموعات المسلحة، إذ لا يزال الهدف الأميركي بضرب الجيش السوري، واستنزافه مع حلفائه هدفا أوليا، يتقدم على أي تفاهمات، إذ نقلت سفينة أميركية شحنة أسلحة بلغارية إلى المجموعات المسلحة، عبر ميناء العقبة. وانطلقت السفينة بشحنة من ١٧٠٠ طن من الذخائر والصواريخ، من مرفأ بلغاري على البحر الأسود، في الحادي والعشرين من حزيران، أي في ذروة المعركة، وبداية الحديث عن التفاهمات الروسية الأميركية، وشوهدت في السابع والعشرين من حزيران وهي تبحر في البحر الأحمر باتجاه العقبة.
ويمكن القول إن انتصار حلب قد أسقط بالتقادم أي تفاهم روسي أميركي حول «جبهة النصرة»، إذ إن عملية حي بني زيد تغني بشكل كبير عن أي تفاهم حول «النصرة»، وتتجاوز النقاش والمساومات حول ضربها بعد أن تمت محاصرتها في حلب، خصوصا أن تصنيفها بالإرهابية في مجلس الأمن منذ حزيران ٢٠١٣، وتسميتها بالإسم كهدف مشروع في القرارات ٢٢٥٣ و ٢٢٥٤، لم يدفعا التحالف الدولي إلى ضربها، بل لم يمنع الأميركيين من فرض حماية سياسية وديبلوماسية حول «النصرة» لمنع الروس من توجيه ضربات إليها.
ويسمح الصمت في إسطنبول، بالاستنتاج أن هزيمة حلب كانت منتظرة منذ فشل التعزيزات التركية، عبر إدلب في وقف تقدم قوات «النمر» سهيل الحسن التي تقدمت من مزارع الملاح الشمالية في الثامن والعشرين من حزيران، لقطع طريق الكاستيلو بالنيران في التاسع من تموز، في حين اقتصر رد فعل فرنسا وبريطانيا على بيان متواضع من وزيرَي خارجيتيهما جان مارك ايرولت وبوريس جونسون، يدعو إلى تفادي كارثة إنسانية في حصار الجيش السوري لحلب، وهو أحد مؤشرات المعركة الديبلوماسية المقبلة، والورقة التي ستستخدمها هذه الدول، لمنع الجيش السوري والروس من استكمال الإنجاز وحماية ما تبقى من المجموعات المسلحة في المدينة، لا سيما «نورالدين الزنكي» و «جبهة النصرة».
ويتزامن تراجع أهمية التفاهم مع إستراتيجية «إنسانية» روسية - سورية لاحتواء الهجوم الدبلوماسي الغربي والأميركي المقبل ضد روسيا وسوريا، لوقف العملية بحجة حماية مئات الآلاف من المدنيين المحاصَرين في الجزء الشرقي من المدينة. وينبغي إسقاط ورقة الحصار التي قد تثقل على عملية عسكرية أو سياسية، ومنع المعارضة وحلفائها من استخدامها، وهو الملف الذي سيكون الأكثر تداولا في الساعات المقبلة لفرض وقف العمليات، وهو ما بدأت المجموعات المسلحة بإغنائه عبر منع المدنيين من الخروج من المدينة .
وكان وزير الدفاع الروسي قد أعلن أن الحكومة السورية قد فتحت ثلاثة معابر نحو غرب حلب، كما تركت للمسلحين معبرا آمنا عبر الكاستيلو إلى الريف الشمالي. وواجهت المجموعات المسلحة في معبر القصر، بالرصاص والقنص، عشرات المدنيين الذين وُجِّهت إليهم الدعوة للخروج إلى حلب الغربية. وتقول مصادر سورية إن عشرات المسلحين كانوا قد تعهدوا بإلقاء أسلحتهم والتوجه إلى خان العسل، غرب حلب، لكن مقاتلي «الزنكي» و «النصرة» هددوا بالقتل من يفكرون بالاستسلام. وخلال النهار، حاول الهلال الأحمر السوري، عبثا تنظيم قافلة لإخراج المدنيين. وتقول مصادر سورية إن مفاوضات قد بدأت قبل أسبوعين مع المجموعات الصغيرة المحلية الحلبية لتسليم أسلحتها وتوفير ممر آمن لها، من دون أسلحة نحو خان العسل أو الريف الشمالي، وأن اتفاقا قد تم التوصل إليه مع وزارة الدفاع السورية لتنفيذه، وهو اتفاق لا يزال قائما.