لا زالت هوية لبنان الحقيقية ضائعة بين مكونات هذا البلد، وكأن حربا أهلية دامت لحوالي 15 عاما وأودت بحياة أكثر من 150 ألف ضحية لم تكن كافية لحسم هوية الوطن وهواه.
الطائف وعروبة لبنان:
حسم إتفاق الطائف عام 1989 هوية لبنان بعبارة:" لبنان وطن نهائي لجميع بنيه" وإستبدال عبارة " ذو وجه عربي" ب " عربي" بتأكيد على عروبة لبنان وعلاقته الطبيعية مع الدول العربية وفي طليعتها سوريا.
ولأن هذا الشق من الطائف يشكل حجرا أساسيا بل مرجعا لماهية القوانين اللبنانية ومنها قانون الأحزاب اللبنانية، كان لا بد أن تعكس هذه الأحزاب أو الجمعيات السياسية رؤيتها للوطن على أساسين: نهائية لبنان وعروبته.
ومع تبني النظام اللبناني للحرية كمجال وفسحة للتعبير عن الذات السياسية للمكونات اللبنانية، كان هناك دعوات متطرفة عن الطائف والنظام الذي كان سائدا قبله، وبررت هذه الدعوات لاحقا بالحرب الأهلية وجرى التراجع عنها لاحقا ولو ظاهرا.
الأحزاب الإسلامية في لبنان:
يشكل السنة والشيعة معا حوالي ثلثي البلد، وأفرزا جماعات سياسية يطغو عليها الخطاب الإسلامي الإيديولوجي.
أولا لا يوجد هناك حزب إسلامي في العالم يمارس الدعوة والعمل إلا ويطمح بمشروع إقامة دولة إسلامية، أقول هذا الكلام لأن خطابات الطمأنة من هذه الأحزاب ليست دليلا كافيا على صدقها .
نشطت العديد من الأحزاب الإسلامية على الساحة اللبنانية نذكر منها الجماعة الإسلامية والتيار السلفي وحزب الله.
الجماعة الإسلامية:
تعتبر الجماعة الإسلامية في لبنان إمتدادا لحركة الإخوان المسلمين العالمية، وفي طروحاتها السياسية تركز على تبنيها للطائف.
إلا أن الجماعة الإسلامية ولإرتباطها العضوي بحركة الإخوان التي تنتهج الإسلام السياسي وحتى الجهادي كخيار، لا يمكن أن تتبنى مدنية الدولة كخيار إستراتيجي، بل هي مرحلة تكتيكية أو إنتقالية يدعونها ب " الدعوة" حتى يصلون لهدفهم الإستراتيجي ببناء الدولة الإسلامية.
إذا هم حاليا في مرحلة " تقية " سياسية للدعوة وتبني العمل الإسلامي السياسي ليأسسوا لاحقا للدولة الإسلامية.
التيار السلفي في لبنان:
على عكس الجماعة الإسلامية، يتجرأ التيار السلفي على تبني وطرح فكرة الدولة الإسلامية في لبنان ويتضامن مع حركات إسلامية عابرة للحدود كالقاعدة وداعش.
يؤمن التيار السلفي بأن تطبيق الشريعة الإسلامية هي خلاص لبنان، وعندما يسأل عن واقع المسيحيين في البلد يقدم حلا وهو أن يدفعوا الجزية لقاء تقديم الحماية لهم ولطقوسهم من قبل الدولة اللبنانية الإسلامية المرتقبة.
التيار السلفي يحث على الدعوة إلى تطبيق الشريعة وتنفيذ حكم الإسلام في المناطق التي تكون مريحة له، فيدعو إلى عدم الإختلاط ولبس الحجاب ومحاربة الفكر والثقافة الغربية، ويدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكل دعوة لرفض هذه الأمور يصنفها التيار السلفي على أنها دعوة عميلة للغرب لهدم مجتمع الأخلاق كما يعتبر.
حزب الله:
قبل أن يتأسس حزب الله، كان هناك تجربة إسلامية سياسية صغيرة تمثلت بجماعة إنشقوا عن حركة أمل وسموا أنفسهم : " حركة أمل المؤمنة".
هؤلاء أنفسهم من إلتحقوا وساهموا في تأسيس حزب الله.
أهم ما اعترض عليه أبناء حركة أمل المؤمنة على حركة أمل هو الجانب الإيماني بغض النظر عن السبب السياسي.
ودعوا إلى إطلاق اللحى والتمسك بأدبيات الإسلام وتأثروا بالثورة الإسلامية في إيران.
أما حركة أمل فلم تمارس عملا إسلاميا سياسيا على الرغم من أن عناصرها جميعا مسلمون ولكنها لم يكن لديها مشروع أو طرح سياسي لإقامة دولة إسلامية وإلا لما إنشق هؤلاء وأسسوا لاحقا حزب الله.
في العام 1985 ظهر رجل بفيديو مصور حاملا ورقة ويتلو بيانا بإسم حزب الله يدعو فيه إلى إقامة الدولة الإسلامية في لبنان وتطبيق الشريعة وحكم الإسلام.
بعدها ظهر فيديو للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يؤكد فيه على أن لبنان ليس جمهورية إسلامية بل هو جزء من الجمهورية الإسلامية بقيادة الولي الفقيه في إيران.
هذا الفيديو عندما صور لم يكن حينها السيد نصر الله أمينا عاما للحزب بل قياديا فيه.
وحتى إغتيال الحريري، كان يعنون علم حزب الله بعبارة:" الثورة الإسلامية في لبنان".
بعد 2005 بدأ يتغير حزب الله:
بعد إغتيال الحريري في 14 شباط 2005 تغير حزب الله وخطابه ولو علنا.
دخل الحزب في اللعبة السياسية الداخلية وزادت الضغوطات الخارجية عليه خصوصا بعد قرار 1559.
هناك ثلاث محطات بعد 2005 تشير إلى معالم تغير في خطاب الحزب.
أولها :توقيع ورقة تفاهم عام 2006 مع أكبر قوة مسيحية وهي التيار الوطني الحر وهي بداية لبننة خطاب الحزب.
ثانيها : الورقة السياسية لحزب الله عام 2009 والتي تضمنت بنود وعبارات مختلفة عن الورقة المفتوحة في العام 1985.
ثالثها: مقابلة للسيد نصر الله يؤكد فيها على عودة الحزب لأدبيات السيد موسى الصدر لجهة تبني نهائية الوطن اللبناني، والمقابلة أجريت على تلفزيون OTV العوني عام 2013 مع الإعلامي جان عزيز.
هذه المحطات كانت كفيلة بتكريس حالة دينية لبنانية تتبنى الإسلام كقاعدة سلوك لا قاعدة عمل وسياسة وهي تجربة جيدة.
حول هذه المرحلة بين 2005 و 2013، كان حزب الله يعمل من أجل تقديم نموذج أقرب للبنانية منها للإسلامية لحليفه المسيحي،وهذا يستدعي تغييرات في الخطاب وتطمينات أيضا.
لكن بعد 2013 تغيرت الصورة.
2013 وما بعده، الحنين:
في 2011 بدأت الأزمة السورية وتفاعلت الأمور لاحقا ودخل الحزب الى الساحة السورية للقتال.
في سوريا نشطت حركات جهادية متطرفة ومتفرعة عن القاعدة كالنصرة وأخرى إنشقت عنها كداعش، إضافة لحركات إسلامية تحسب على الإخوان المسلمين.
زاد التطرف السني والشيعي، وعاد خطاب الصراع المذهبي بين الطرفين يزداد وطفت على السطح لغات مذهبية وطائفية تخاطب الوجود والكيان.
كان لخلافة داعش وتأسيسها لدولتها في الرقة والموصل أثر واضح على سلوكيات الحزب وأبنائه ونخبه في مناطقه.
دخل حزب الله في حلقات من المزايدة على تطبيق الشريعة مع طرف آخر يطبقها كل يوم وإن على مستوى فردي.
وتصدى لهذه الحملة المستجدة من الإيمان وتطبيق الشريعة رجال دين محسوبين على الحزب وبالتنسيق مع مجالس محلية تابعة له كالبلديات، يدعون ويحضون على تطبيق الشريعة ولو لم يذكروها حرفيا تحت شعار :" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
لا يمكن الجزم في هذا السياق على عودة نهائية لحزب الله لخطاب 1985 فأدبيات 2009 هي المعترف بها حكما في تعاطي الحزب مع النظام اللبناني وتصريح 2013 كسر صلابة ما سيحصل بعده ولا يمكن الجزم قطعا أن وراء هذه الدعوات حزب الله ولكن سكوته عنها مريب.
لكن تبقى سنة 2013 مصيرية أيضا، فهو العام الذي تدخل الحزب فيه بزخم عسكري قوي في الأزمة السورية.
أمثلة على تغييرات خطاب الحزب:
شهد عام 2016 تحديدا موجة غلو واسعة في أوساط بيئة حزب الله.
الحملة ممنهجة ومنظمة، وتبدأ أولا بتخوين وتكفير كل من يعارض رجل دين محسوب على الحزب بحجة أن رجل الدين يدعو إلى الإسلام وبحجة أن حزب الله يضحي في سوريا ويقدم خيرة شبابه فممنوع إنتقاده.
من مصاديق هذه الحملة، الدعوة التي أطلقها رجل الدين الشيعي المقرب من الحزب سامي خضرا وأثارت جدلا واسعا عندما وجه إهانة للنساء غير المتحجبات من خلال ربط الموضوع بضعف الشخصية.
نفس هذا الرجل بالأمس أصدر فيديو وصف معارضيه ومنتقديه بأنهم دواعش السفارة الأميركية، أي بمعنى آخر أباح دمهم.
كذلك برزت دعوات عدم الإختلاط بين الجنسين كما حصل في مسبح عيترون وفي ماراتون الخيام. وإنتشر بيان بإسم بلدية جبشيت تدعو في أحد بنوده لعدم الإختلاط والإغلاق في أوقات الصلاة وعدم بيع أفلام إباحية.
وقبل هذا جاء تهديد من أحد طلاب الجامعة اللبنانية لغير المتحجبات بالضرب ليشير إلى شيء خطير يحصل ومتوقع.
منذ حوالي السنتين تقريبا، شهدت مدينة صور والقرى حولها موجة تفجيرات إستهدفت الخمارات الموجودة فيها، وكان غريبا توقيت التفجيرات في ليل متأخر حتى لا توقع ضحايا، وهدف التفجيرات بعد تلقي أصحاب الخمارات بيانات تحذير، وعدم تبني أي جهة إرهابية تعادي الشيعة لهذه التفجيرات.
أضف إلى الإشكالات التي ألغت لمدة مهرجانات بعلبك وصور قبل أن يعاودا عملهما هذا العام.
دلالات الموضوع:
لا شك أن المجتمع الشيعي مؤمن ومحافظ بطبيعته ولكن إيمانه ليس جبريا أو عن عمد بل طبيعيا ومعتدلا.
فشيعة لبنان كانوا يتقبلون جميع الثقافات ولا يجدون فيها أي إشكال وأبرز مثال مدينة صور.
ما يحصل اليوم من هكذا دعوات هي مقدمة لخراب البصرة، فالإيمان بحاجة إلى حرية لينمو ويزدهر لا قمع، وإذا كان أحد ما يظن أن فكرة الدولة الإسلامية في لبنان ممكنة فهو واهم، فهكذا دولة مرفوضة إسلاميا في لبنان قبل أن ترفض مسيحيا.
الرهان على هذا الخيار خاطىء وهو وهم وسراب، وبدل الدعوة إلى تطبيق شريعة بات عمرها أكثر من 1400 عام، الأصح مكافحة المخدرات والدعارة بإسم الدين والسياسة والفلتان الأمني والفساد وتجديد وإصلاح ما ترتب على هذه الشريعة من غبار جراء الزمن.
والدعوة الصحيحة هي لدولة مدنية يحكمها خبراء وإختصاصيون ويسودها القانون، أما الدولة الإسلامية فهي وهم كبير وكابوس لن يتحقق.
فلا مكان لحكم الإسلام السياسي في وطن كلبنان لأن معطيات البلد لا تسمح وظروف المجتمع عصية عن تقبل هكذا حكم، فلبنان مختلف عن إيران والسعودية وأفغانستان والعالم يتغير.