العلاقة الأميركية الإيرانية احتلت العنوان الأبرز في مقاربة أزمات المنطقة العربية، لا سيما في علاقة واشنطن بدول الخليج أو بدول أخرى امتدّ إليها النفوذ الإيراني في المنطقة. فهل سيشكّل التقارب بين واشنطن وطهران مؤشرا على استقرار المنطقة، أم أنّ الصراعات فيها هي أعمق من موضوعات الخلاف الأميركي الإيراني؟
شكلت محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا مؤشرا على أن السياسة الأميركية تجاه سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليست على ما يرام، بل بدا أن الإدارة الأميركية برئاسة باراك أوباما لم تكن حاسمة في موقفها من الانقلاب، وأظهرت المواقف التركية التي وقفت ضد الانقلاب، مواقف تُحمّل واشنطن مسؤولية ما في الانقلاب ولو من زاوية إيوائها المتهم الأول بإدارة الانقلاب من قبل أردوغان الداعية فتح الله غولن.
لم تصل واشنطن وطهران إلى اتّفاق نهائي يرسم الحدود النهائية في الملف النووي الإيراني، رغم توقيع الاتفاق بين إيران والدول الست، ولا اطمأنت طهران بعد إلى الغطاء الأميركي لما تعتبره مصالح إستراتيجية لها في المنطقة العربية. لكن ثمة مسافة قطعها كل من جهته باتجاه الآخر أظهرت وجود مسعى حقيقي من كلا الطرفين، في بلورة علاقة إستراتيجية بشروط لم تزل محل خلاف. ويتمثل بناء جدار الثقة من خلال التنسيق القائم في الميدان العراقي، في الآونة الأخيرة أرسلت واشنطن 500 عسكري أميركي للمساعدة في تحرير الموصل من قبضة داعش، لم يخرج أي طرف إيراني أو ميليشيا عراقية تابعة لإيران بإطلاق أي موقف اعتراضي، كما جرت العادة في مناسبات مماثلة بعد تمدد داعش في العراق.
يشير مرجع كبير في العراق إلى أنّ مشكلة أميركا ليست مع إيران وليست مع الإسلام الشيعي الذي تديره إيران في المنطقة، بل مع الإسلام السنّي. وبرأيه أن هذا ما شجّع طهران وواشنطن على رفع سقف التعاون في “مواجهة الإرهاب” ولتطوير التعاون الأمني بينهما في أكثر من ساحة. ومن هنا يمكن فهم قلق واشنطن من الدور التركي الذي بات طامحا لأن يشكل عبر حزب العدالة والتنمية أممية إسلامية تشكل تركيا مركز القرار فيها على مستوى الدول المحيطة والمشرق العربي في الحد الأدنى.
إنجاز الاتفاق النووي حقّق خطوات مرضية للطرفين، أدّت إلى بدء عملية رفع العقوبات الأميركية، ولو بشكل محدود، عن إيران. وقد وفّر السكوت الأميركي عن تمدد الحوثيين في اليمن، رغم الغضب الخليجي، تعويضا عما خسرته إيران في العراق.
التقارب الإيراني الأميركي وفّر حماية للدور الإيراني في أكثر من دولة، وطوى مرحلة العداء الأيديولوجي لتنتقل العلاقة إلى مرحلة الخصومة الإعلامية، مترافقة مع تنامي مساحات التعاون حول العالم العربي.
هكذا نجح الرئيس الأميركي باراك أوباما في إحداث هذا الخرق مع أحد أقطاب “محور الشرّ”، بحسب التوصيف الأميركي، من دون أن يكلّف بلاده دفع أثمان الحرب، من جنود أو مال وعتاد. وهذه الإستراتيجية هي نفسها التي دفعت أوباما إلى إعلان انفتاح بلاده على كوبا. وهو مسار يكشف أنّ الإدارة الأميركية الحالية تنطلق من فرضية نشوء عالم جديد على أنقاض آخر ينقرض.
وتسعى واشنطن إلى وضع قواعد دولية جديدة في العالم الجديد، أبرز مؤشّراتها أنّ واشنطن لا تريد أعداء لها بعد الآن. في ما يشبه سياسة “صفر أعداء” التي سوّقها ذات يوم “العقل المدبّر” للحقبة الإسلامية الأردوغانية في تركيا، أحمد داود أوغلو.
فكلما انحسرت المسافة بين واشنطن وطهران، توسعت المسافة بين الرياض وواشنطن، وتوسعت بين تركيا وواشنطن، وبدا أن المملكة العربية السعودية تتّجه إلى الإفلات من بعض قيود التحالف مع الإدارة الأميركية. إفلات يجري التعبير عنه من خلال تصويب نخب سعودية قريبة من الحكم على إدارة أوباما وتظهير هشاشة دورها، والإشارة إلى انكفائها عن ممارسة دور تفترضه هذه النخب تجاه ما التزمت به بوجه النفوذ الإيراني…
ما يقوله المرجع العراقي ليس مفاجئا بالنسبة إلى نخب خليجية، بل يوفر التقارب الأميركي الإيراني مادّة عداء إضافية لواشنطن في البيئة السنية، العربية منها خاصة. فالنفور من سياسة الإدارة الأميركية، هي إحدى وسائل الدفاع لاستيعاب الغضب الشعبي من هذه السياسة ومن أنظمة الحكم التي طالما كانت متحالفة معها. فتنظيم داعش ليس وجوده إلا دلالة على الغضب الذي يعتمل داخل البيئة السنية العربية. والقلق من داعش هو قلق سنيّ بالدرجة الأولى إذ سيطال دولا عربية ذات أكثرية سنية.
سياسة التقارب مع إيران تتمّ، حسب الكثير من السنّة والعرب، على حساب مصالح العرب. من هنا فإنّ السياسات الخليجية والعربية ستتجه نحو مشاكسة واشنطن وسياساتها. فذلك أقلّ ضررا في محاولة امتصاص النقمة الشعبية. السعودية واحدة من هذه الدول وهناك مخاطر جدّية تتلمّسها، ستدفعها إلى المزيد من الغضب، يجري التعبير عنه اليوم بانتقاد سياسات أوباما، وبمحاولة الاعتماد على الذات وتصعيد المواجهة مع النفوذ الإيراني وفتح قنوات إقليمية ودولية قد لا تلائم واشنطن.
الرياض تخوض مواجهتها، وهي تعدّ الأيام التي تفصلها عن نهاية عمر الإدارة الحالية. وتحمّل الرياض أوباما مسؤولية تدهور المنطقة العربية. وهي تسعى إلى فرض وقائع جديدة تقوم على استبعادها التسويات الإقليمية الكبرى بشروط أوباما، بانتظار مغادرته البيت الأبيض فيما تراقب الأطراف الدولية مؤشر العلاقة التركية السعودية في المقبل من الأيام، لا سيما أن فشل الانقلاب وإعادة الاعتبار لدور العلاقة الروسية التركية الإسرائيلية ساهما، إلى حد ما، في إثارة زوبعة في مواجهة واشنطن من جهة، وطهران من جهة ثانية. وفي انتظار انتخاب الإميركيين إدارة جديدة يعتقد جزء كبير من النخبة السعودية الحاكمة أنها ستكون إدارة جمهورية وانقلابية على سياسات أوباما في العالم العربي، لكن هل ستكون أشدّ في شروط التسوية مع إيران؟ العلاقة التركية العربية والخليجية هي من يقرر ذلك.
صحيفة العرب: علي الامين