قبل سنة ونصف السنة كانت زيارة وزيرة الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى عدد من الدول الأفريقية تدل على محاولات إيران كسر الحصار الدولي المضروب عليها أثناء قيامها بالمفاوضات مع القوى الغربية حول نشاطها النووي، وقد كانت السمة المميزة والطاغية على تلك الزيارات هي التخبط الواضح الذي بدا على السلوك الدبلوماسي في غمرة بحث النظام الإيراني عن أي مخرج يمكنه من التنفس اقتصاديا ودبلوماسيا.
واليوم، يقوم وزير الخارجية نفسه على رأس وفد سياسي بسلسلة من الزيارات إلى عدد من الدول الأفريقية أولها نيجيريا ثم غانا وغينيا ومالي. وتأتي زيارة ظريف لأفريقيا هذه المرة لعدة أسباب أخرى تتعلق بالضغط الإقليمي على إيران في منطقة الشرق الأوسط وكذلك وسط الصراع العالمي على المجال الأفريقي الذي يعتبر غنيا بالموارد ويجذب انتباه القوى التي تبحث عن دعم لقدراتها.

فإيران ليست القوة الإقليمية الوحيدة التي تبحث عن موطئ قدم لها في القارة السمراء، بعد أن نجحت في زرع جيوب طائفية لها هنا وهناك، بل إن تركيا وإسرائيل أيضا لهما مجالات نفوذ تقلق الوجود الأوروبي والصيني والأميركي ويمكن أن تثير أفريقيا بذلك تنافسا غير مسبوق قد يعيد تشكيل العلاقات الدبلوماسية بين الدول والأحلاف في المستقبل، في ظل غياب واضح للدور العربي.

هروب من الشرق الأوسط

إيران مجال للنفوذ في أقاصي أفريقيا الغربية أي في الجهة المقابلة للنفوذ التركي في القرن الصومالي شرقا
تأكد للإيرانيين أنه لا مجال للقيام باستثمارات جدية واستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط نظرا إلى سياستهم الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. فهي الدول المفاتيح التي من خلالها يمكن لأي قوة اقتصادية في العالم أن تقترب من الدول المركزية العربية كالسعودية ومصر والسودان ودول الخليج العربي.

فمنطق السياسة الخارجية الإيرانية إزاء العرب يخضع إلى تفكير شبه عسكري في إثارة الصراعات والنعرات الطائفية والعرقية وقلب منظومات ثقافية وسياسية تشكل قوة استقرار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية استقلال بعض الدول المحورية في المنطقة. تمكنت المملكة العربية السعودية منذ بدء التغييرات الجذرية في نظرتها إلى الداخل السعودي والعربي من إعادة تشكيل الواقع العربي وفق ثنائية الاستقرار الداخلي وإعادة الأزمات إلى القوى الإقليمية التي تثيرها.

فهذه الطريقة تدفع الأخطار الخارجية التي تهدد العرب وتعيدها إلى نقاط قدومها، وهذا ما جعل الإيرانيين يبحثون عن مجالات أخرى للاستثمار بعيدا عن المجال العربي ومن ذلك أفريقيا. فنزوع أيديولوجية النظام الحاكم نحو الهيمنة الإقليمية وبسط النفوذ الطائفي المسلح الذي يجد تبريراته في الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية وغيرها يجعل من إيران جارا سيء السمعة واحتمال أن يكون شريكا في النمو والتطور والنهوض احتمال معدوم في حالة عدم تراجع نظام المرشد الأعلى عن سياسته السلبية تجاه العرب، وفي كل الحالات وبحسب مراقبين، فإن رهان إيران على تقويض المجال العربي هو رهان خاسر لأن العرب مجال ضخم وعريق ومتماسك رغم كل الهزات.


نيجيريا وإيران

تأتي زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى نيجيريا في هذا التوقيت لتعلن عن بداية قدوم لاعب جديد في الساحة الأفريقية بعد أن انعدم كل أمل في تواجد الإيرانيين لدى العرب. فقد فهم الإيرانيون التوجه الدولي الجديد والمكثف على الساحة الأفريقية نظرا إلى ما يمكن أن تمثله هذه القارة من أسواق كبرى قادرة على استيعاب البضائع وأيضا من مواد أولية ومجالات للبنية التحتية والإصلاحات الكبرى في مجال الطاقة والعمارة والتعليم والصحة والمواد الكيميائية.


نفس السياسة الطائفية تطبع علاقة إيران بالأفارقة
هذا الواقع الأفريقي أسال لعاب العديد من القوى الأخرى لعل من أبرزها تركيا التي اكتشفت المنطقة مبكرا عبر قنوات ربط مع الدول التي تتشابه معها في نفس المذهب (السني) مثل الصومال، حيث أن تواجد الأتراك في القرن الأفريقي سوف يمكنهم من استغلال أهم معبر وهو مضيق باب المندب الذي يؤدي إلى البحر الأحمر وقناة السويس، وهو ممر حيوي لطالما كان مطمعا للعديد من القوى في العالم، ولعل أبرز دليل على قوة الحضور التركي (نظام أردوغان) في الصومال هو التصرف الأخير الذي قامت به السلطات الصومالية من خلال غلق جميع مدارس فتح الله غولن المشتبه في وقوفه وراء محاولة الانقلاب في تركيا ونعتها بـ”المدارس الإرهابية”.

ثم إن إيران ومن خلال استراتيجيتها الجديدة تبحث هي الأخرى عن مجال لها أيضا، وربما يعود اختيارها لغرب أفريقيا إلى عدة أسباب من بينها أن بعض الشيعة يشكلون جماعة مسلحة في نيجيريا الغنية بالنفط ويقود تلك الجماعة أحد الدارسين القدامى في مدارس مدينة قم وهو إبراهيم الزكزاكي الملقب بنصرالله أفريقيا.

جماعة إبراهيم الزكزاكي، التي تطلق عليها إيران اسم “حزب الله في نيجيريا”، ليست في علاقة طيبة مع السلطات النيجيرية بالنظر إلى النشاطات الطائفية التي تقوم بها الجماعة، وفي الحين ذاته تحرص الجماعة على إقامة جسور تواصل مستمرة مع النظام الإيراني وخاصة الحرس الثوري الذي يقوم بمد الزكزاكي بالمال والسلاح في ظل ورود تقارير تتحدث عن استغلال إيران لهذه الميليشيات في حروبها بالشرق الأوسط.

وتؤكد تقارير صحافية قيام الزكزاكي بتكوين ميليشيا عسكرية يقوم أعضاؤها طوال الوقت بالتدريب على القتال، وهو ما كشفه المحلل السياسي النيجيري محمد كبير عيسى في مقال له، لافتا إلى أن الحركة الشيعية باتت “دولة داخل الدولة”، وأنها تقوم بإجراء تدريبات عسكرية لأعضائها، مما يكشف عن تدبير الشيعة لعمل ما بالمستقبل.

ويقول تقرير لشبكة “الراصد”، إن أبرز العوامل التي ساعدت على نشر المذهب الشيعي في نيجيريا تتمثل في الفقر والجهل اللذين يسودان أوساط المسلمين في أفريقيا عموما ونيجيريا خصوصا، الأمر الذي سهّل على قسم كبير منهم الانقياد وراء اعتناق المذهب الشيعي، كما أن دعم إيران للمذهب من جهة وانتشار الطرق الصوفية كالتيجانية والقادرية من جهة ثانية شكلا رافعة لتغلغل دعاة المذهب الشيعي.
وتقول آراء الخبراء إن الوفد الذي يرافق وزير الخارجية الإيراني في جولته الأخيرة إلى أفريقيا يحوي رجال أعمال ودبلوماسيين وأيضا رجال دين، الأمر الذي يكشف عن احتواء الزيارة على نقاط تفاهم حول الملف الديني سيطرحها ظريف في دولة تشهد تنوعا في سكانها بين مسيحيين ومسلمين سنة وطوائف وأديان أخرى، وهي دولة تعاني في شمالها من جماعة متطرفة تتوازى في توحشها مع تنظيم الدولة الإسلامية وهي جماعة بوكو حرام شمال نيجيريا.

وتستهدف جماعة الزكزاكي الشيعية المرتبطة بإيران الجيش النيجيري بشكل ممنهج في إطار نشاطها الرامي إلى الاستحواذ على مجال جغرافي يمثل نقطة ولاء لإيران في قلب أفريقيا، إذ كانت لإبراهيم الزكزاكي سوابق في محاولة اغتيال رئيس أركان الجيش النيجيري المرافق بـ73 عسكريا عندما كان موكبه بصدد المرور إلى مدينة زاريا النيجرية التي تحتضن الزكزاكي وجماعته.

ولإيران إذن مجال للنفوذ في أقاصي أفريقيا الغربية، أي في الجهة المقابلة للنفوذ التركي في القرن الصومالي شرقا. أما بالنسبة إلى العرب غير المندفعين نحو أفريقيا بالشكل المطلوب ربما يكون ذلك خطأ استراتيجيا قد يكلفهم الكثير في المستقبل من حيث الثروة المائية والفلاحية والطاقة المنجمية.


لا لسياسة الفراغ

الصين والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وإيران وقوى أخرى لها مواطئ قدم في أفريقيا، في حين أن العرب لا يملكون مشاريع ومناطق نفوذ تذكر في هذه القارة التي تشكل قوة توازن كبرى في العالم. إذ يؤكد متابعون أن العرب هم أكثر الأمم في العالم قدرة على اختراق المجال الأفريقي بالنظر إلى التاريخ المشترك بين الجانبين، خاصة في ما يتعلق بالتراث الديني والثقافي واللغوي والأُثري.

ويعود ضعف الروابط العربية بالمجال الأفريقي إلى عدة عوامل تظهر على الصعيد الاقتصادي بالأساس من بينها غياب القدرات التصديرية الأساسية وضعف الروابط التجارية والصناعية والمعرفة المحدود بالأسواق الأفريقية وغياب الثقة في بعض مجالات الأعمال وغيرها.

ويأتي هذا في الحين الذي تنتشر فيه المشاريع الاستثمارية اللبنانية الكبرى وهي مشاريع تملكها بالأساس أصول مالية شيعية لبنانية لها علاقات بإيران التي تقوم بدعم أعمالهم وتقدم لهم الاستشارات عبر الأجهزة الدبلوماسية الموجودة في تلك الدول الأفريقية.
ويقول الباحث المصري في العلوم الدولية والمتخصص في الشأن الأفريقي حمدي عبدالرحمن، إن المتغيرات والتحديات الجديدة تفرض إلى جانب العوائق الهيكلية القائمة بين العرب والأفارقة ضرورة النظر إلى منظومة العلاقات الاقتصادية بعيدا عن المنظور الثنائي وفي إطار رؤية كلية شاملة، وعبر الوعي والإدراك بخطورة التحديات المشتركة التي يواجهها العالمان العربي والأفريقي في عصر العولمة الأميركية والأوروبية.

صحيفة العرب