عندما قرّر الشعب اللبناني أن ينسى مأساة وأهوال الحرب الاهلية التي دمّرت كلّ الاسس اللبنانية , كان مُحقا , لأن البدء من جديد , وبناء المستقبل , يحتاج إلى تجاوز الكثير مما حصل , ويحتاج في كثير من الاحيان عدم الالتفات إلى الوراء , لأن المأساة إذا بقيت ماثلة قد تُعيق إعادة البناء .
ولكن لم يكن الشعب اللبناني مُحقا أو مصيبا , عندما قرّر البدء بمرحلة جديدة , بنفس الادوات , وبنفس العقلية ومع نفس القيادات التي خاضت الحرب , أو بشكل أدق , عندما قرر أن يختار بعض القادة من الذين خاضوا الحرب والتدمير وسلمهم تشكيل المرحلة الجديدة .
هذا الخطأ المستمر , وبقرار من الشعب اللبناني الذي إستقال من وظيفته الوطنية التي هي البحث والتفكير في همومه , وهموم وطنه , وإنصرف بكليته إلى الانشغال بقضايا العالم وهموم الكرة الارضية , وكأنه قد وصل إلى مرحلة الرفاهية التامة , والكمال الذي لا يحتاج معه إلى شيء , فظنّ نفسه مسؤولا عن العالم , فأهمل نفسه .
هذا الشعب الذي يشغله ويوتره حادث سير حصل في بقعة من العالم , ويخوض حوله نقاشات قد تدوم لأكثر من إسبوع , وفي حال حصل حدث أكبر بقليل , ترى الشعب اللبناني من أقصاه إلى أقصاه , قد هبّ للمتابعة والشرح والتأويل , وإعطاء النصائح والدروس والمواعظ .
هذا الشعب الذي يعيش على أوهام الوعود , والرهانات التي هي أشبه بمقامرة تمارسها قياداته , لو إلتفت إلى واقعه لوجد أنه يعيش على مزبلة يخالها جنة , وهو في أسفل سافلين ويظن أنه في القمة , حيث تحوّل من مجتمع إلى مجموعة من الناس فاقدة لكل الروابط الاجتماعية , لا يجمعها شيء , ومن شعب إلى شعوب مسوّرة ومحصنة بثقافة العداء لبعضها البعض , والكراهية المُفتِتة لمفهوم اللقاء والتعاون , هذه الكراهية هي المعطى الاكثر خطورة بين الناس , لأنها لا ترى الحَسَن عند الآخر بل ترى دائما قبحه , وهي المانع الاساسي للتسامح الذي هو العنصر الاساسي للتعاون والنهوض , بل أكثر من ذلك قد تحوّل من دولة إلى دويلات متداخلة متصارعة على رأس كل دويلة منها لصٌّ مذهبي يحيط به مجموعة من الكهنة يدعون أنهم وكلاء الله في ارضه , يزينون للزعيم أعماله الشريرة , كما يُزّين الشيطان أعمال الناس من أجل إغوائهم , فنحن يا شعب لبنان العظيم في أسفل سافلين .