"لو جئنا نذكر لكم كلَّ شيء أصابنا، لَعجزَ اللسان عن ذلك. ومهما سمعتم في الجرائد ونحن كتبنا لكم. لا يمكن ان تسمعوا ربع قيراط من أربعة وعشرين، من الذي اصابنا من بهدلة واهانة ووجع وجوع وعري ومنظرنا وحده كان كافياً للحزن والتأسف. فنحن اليوم قد خلقنا خلقةً جديدة على الأرض لأننا قمنا من بين الأموات، ونشكر الله على هذه النعمة العظيمة اذ ابقانا احياء، لأننا كل مساء كنا نودّع بعضنا بعضاً، ولا نعلم من يصبح ميتاً ومن يصبح في حالةٍ حزينة. نسأل الله ان لا يعيد هذه الأيام على احد في ما بعد". إنه جزءٌ من رسالةٍ احتفظ بها المهندس سام افرام باسيل، كان قد ارسلها جدّه عبدو فرنسيس سام باسيل الى اقاربه في المهجر، يروي لهم مآسي المجاعة وأهوالها التي أصابت قريته درعون في جبل لبنان، خلال الحرب العالمية الأولى.
مئة سنة على حبر الرسالة تلك، ولا تزال ذكرى مجاعة جبل لبنان عصيّة على النسيان. رهبة صور وجوه القرويين وأجسادهم العظميّة، يستعيدها العقل في الخيال كلّما مرّت في البال هنيهة. لكن تلك الحقبة، رغم قتامتها، كانت أبرز محطات تأسيس كيان لبنان الوطن، الذي ننتمي اليه اليوم في الهويّة والروح. محطّةٌ تأرجحت فيها النظريات، بين من رأى مبالغةً في سرد أحداث المجاعة وتعظيمها، ومن وثّق حصولها وأكّدها وحدّد مسؤوليات كلّ من ساهم بها. وتمثّلت آخر المعطيات التوثيقيّة، بفيلمٍ وثائقيّ هو الأول من نوعه في لبنان، أنتجه المركز الماروني للتوثيق والأبحاث. حصل ذلك تزامناً مع مرور مئة عام على ذكرى المجاعة التي شكّلت ركيزة فهرس كتب التاريخ اللبنانية. فماذا جاء في الوثائقي من استنتاجات؟
المجاعة قضت فعليّاً على ثلث سكّان جبل لبنان
لعلّ أبرز ما يؤكّد المعاناة التي عاشها سكّان جبل لبنان في الحرب العالمية الأولى، هي شهادة عبدو باسيل نفسها، التي عرضها الوثائقي بعد مئة سنة على صوغها. هذا ما يؤكّده المدير العام للمركز الماروني للتوثيق والأبحاث المونسنيور سعيد الياس سعيد في حديثٍ لـ"النهار"، معتبراً أن "فكرة إعداد وثائقي خاص بالمجاعة، جاءت تزامناً مع مرور 100 سنة على الحدث الأليم واستذكاراً له. وباتت الذكرى المئويّة مناسبة فريدة لاعادة احياء ذاكرة كلّ لبناني عموماً، وكلّ ماروني خصوصاً، حول هذه المأساة التي لا يمكن نسيانها لأنها اساس لبنان وأساس وجودنا اليوم".
ويشير سعيد الى أن الوثائقي المذكور هو الأول من نوعه الذي صوّر عن المجاعة الكبرى التي شهدها أهالي جبل لبنان في الحرب العالمية الأولى. وقد جرى تصوير فيلم روائي حول الموضوع في مرحلة سابقة، لكنه لا يعتبر فيلماً وثائقيّاً. يقول: "نحن نتكلّم عن وثائقي يتناول صوراً قديمة من حقبة المأساة. في متناولنا 6 صور مأخوذة من ايام المجاعة ولا اعتقد ان هناك المزيد منها. وتم التعليق عليها استناداً الى كتاب الخوري اسطفان ابرهيم الخوري الذي أصدره المركز الماروني للتوثيق والأبحاث مستعيداً كلّ ما قيل وكتب عن حدث المجاعة، سواء لنفيها او تأكيدها او الادعاء بالمبالغة فيها. وهو كتاب موثّق وعلمي ويعتبر مرجعاً في هذه المادّة".
ويؤكّد أن النتيجة التي توصّل اليها الوثائقي، تقول إن المجاعة حقيقة وليس مبالغاً بتفاصيلها. ويشير الى أنها قضت فعليّأً على 200 ألف شخص من أهالي جبل لبنان، بمن فيهم مواطنون موارنة. ويعادل هذا الرقم برأيه ثلثي سكّان لبنان آنذاك. ويحمّل الوثائقي مسؤولية المجاعة للدولتين العثمانية والألمانيّة. ويتطرّق الى مسؤوليّة عدد من اللبنانيين في التجويع بعدما اعتمدوا سياسة احتكار المواد الغذائيّة وبادروا الى مضاعفة أسعارها، مما جعل وقع المجاعة أكثر ايلاماً.
عرض الوثائقي في 5 لغات الى جانب العربيّة
يلفت سعيد الى أن الوثائقي سيترجم الى 5 لغات في نهاية شهر تمّوز الحالي. هي على التوالي اللغة الاسبانية والبرتغالية والايطالية والفرنسية والانكليزية الى اللغة العربية. هذا ما سيتيح برأيه للمتحدرين من اصلٍ لبناني في بلاد الانتشار التعرّف إلى هذه المأساة التي تعتبر جزءاً اساسياً في تاريخ لبنان. وسيعرض الوثائقي في بلدان اميركا الشمالية واميركا الجنوبية وجميع دول الاغتراب الفرنكوفونية، وخصوصاً في افريقيا. هذا فضلاً عن الدول المتحدّثة باللغة الانكليزيّة خارج نطاق الولايات المتحدة الأميركيّة، كدولتي اوستراليا وبريطانيا. وينسّق المركز الماروني للتوثيق والأبحاث مع المؤسسة المارونية للانتشار، بهدف نشر الوثائقي في بلاد الاغتراب، نظراً لاهتمامها بقضايا المغتربين. أما في لبنان، فبات متوافراً على الانترنت، في حين تولّت وسائل الاعلام عرضه الاسبوع المنصرم.
المتحدرون من اصل لبناني... في سبيل العودة
لم تقتصر فاتورة مجاعة جبل لبنان على استنزاف الأرواح، بل تعدّتها الى تعاظم مظاهر هجرة اللبنانيين نحو بقاع الأرض هرباً من الموت والمستقبل الضبابي. وبلغ متوسط اعداد المهاجرين سنوياً 6929 شخصاً في الحقبة الممتدة بين عامي 1900 و 1913، فيما وصل المجموع العام للمهاجرين الى 97000 شخص، بحسب بحث اجراه الجيش اللبناني ونشر في مجلة الجيش في العدد 325 منها. وقد تأثر الراغبون في الهجرة بتسارع النمو الاقتصادي في اوروبا واميركا اللاتينية وافريقيا حيث وصلت النسبة الى 2.45% بحسب ما اشارت الصفحة 185 من دراسة شاملة حول الاقتصاد العالمي لأونغيس ماديسين.
وبلغ متوسط المهاجرين اللبنانيين 4400 مهاجر سنويّاً بين عامي 1919 و 1938. ووصل المجموع الكلي الى 88000 شخص، مما يعني أن اعداد المهاجرين الذين تركوا لبنان بين عامي 1900 و1938 وصل الى 185000 مهاجر قديم، أسسوا أسراً في بلاد الاغتراب وصاروا يعرفون اليوم باسم المتحدرين من اصل لبناني. وحول ظروف الهجرة وتفاصيلها آنذاك، يشير سعيد الى أن التجويع الذي حصل سرّع في الهروب وزاد اعداد الراغبين فيه. ولكن نظراً للحصار البحري المفروض على الشواطئ لم يستطع المهاجرون السفر سريعاً، ولكنهم بادروا الى ذلك بعد انتهاء الحرب. ويلفت الى ان "ما حصل من مئة عام وما يحصل اليوم في الشرق هو استعادة وترداد للهدف للمخطط نفسه ومن الضروري ان نضيء حوله. واذا لم نتنبّه الى المسألة سنشارك في تفريغ المشرق من مسيحييه".
"الى أي مدى يمكن لعرض الوثائقي في عالم الانتشار أن يحضّ المتحدرين على المطالبة باستعادة جنسيتهم اللبنانية؟"، يجيب أنه "اذا كان بينهم من فقد اهله في المجاعة، سيشعرون انهم مشدودون الى الأرض التي مات فيها ذووهم. يمكن قسماً كبيراً منهم ان يطالبوا باستعادة الجنسية من هذا الباب. لكن الأهم من ذلك، القول أن الذين ماتوا لم يرحلوا، بل ما زالوا موجودين في ذاكرتنا وقلوبنا. ونحن نعمل اليوم في سبيل التضامن والوحدة كي لا تعاد تلك المأساة".
قد يكون من الصعب على المتحدّرين من اصلٍ لبناني ان يعدّلوا بوصلة حياتهم ويتركوا عالمهم المقدّر، ويعاودوا نبش ماضٍ دهليزيّ عايشه أجدادهم منذ نحو مئة عام. لكن ذلك الماضي يبقى جزءاً من رائحة دفاترهم وكيانهم وهويّتهم. من رائحة رسائل فتتها الزمن، يشهد حبرها: "نحن اليوم قد خلقنا خلقةً جديدة على الأرض".
مجد بو مجاهد