قرعوا بابه فجأةً. كانا شخصين زاراه من دون موعدٍ مسبق، الى جانب مالك المبنى القديم الذي يقطن في منطقة المصيطبة. أعلموه أنهم خبراء وجاؤوا اليه ليحدّدوا بدل مثل الشقة التي يسكنها منذ كان يافعاً. وقف في وجههم بجسده النحيل حاملاً على جبينه وقار سنواته الخمس والسبعين. قال لهم: "ممنوع عليكم الدخول الى المنزل، سوى على جثّتي. أؤكد لكم أن قانونكم غير قابلٍ للتطبيق". لم يجادلوه ورحلوا. بعد أيامٍ قليلة قرع الباب. فتحه. الرجلان نفسهما قصداه لتكرار محاولة دخول المنزل مجدّداً: "نريد الدخول لتثمين بدل مثل الشقّة، لأننا لا نستطيع تثمينها من الخارج". منعهما مرّةً أخرى من الدخول. أقفل الباب في وجههما. وبدت على وجهه ملامح القلق. يوم الثلثاء الماضي، عاد الباب ليقرع فجائيّأً. لم يكن كريم ينتظر أحداً. اصطدم بوجهي الخبيرين الى جانب صاحب الملك. لكنّه تفاجأ بزوّارٍ جدد الى جانبهم، لم يرهم في المرّات السابقة. انهم عناصر من القوى الأمنية أتوا لمؤازرة الخبراء لدخول المنزل. وفي صحبتهم أمرٌ من النيابة العامّة للدخول.
القصّة علمتها "النهار" كاملةً من المهندس أنطوان كرم، وهو عضو الهيئة التأسيسية للدفاع عن حقوق المستأجرين. يروي بحماسة، أن كريم، الرجل المسن، عاند أمر دخول الخبراء الى المنزل، ما استدعى منه مرافقة القوى الأمنية الى المخفر للإدلاء بإفادته. "ساءلوه، وبعد أخذٍ وردّ ترك كريم حرّاً طليقاً ولم يُجير على شيء"، يروي كرم مشيراً بحسب رأيه الى أنه لا يحقّ للخبراء دخول المنزل بالقوّة لأن ذلك يتناقض ومبدأ احترام حرمة المنزل التي ينصّ عليها القانون , بل ان الهدف من المؤازرة هو حماية الخبراء في حال وافق المستأجر دخولهم اليه. لكن ما هي دقّة هذه المقولة؟
ما يهمّ في الأحداث المتعاقبة لعمليّة تحديد بدل المثل، أن الخبيرين لم يتمكّنوا الدخول الى شقّة كريم، رغم أنهم تمكّنوا من تثمين شققٍ سكنيّة أخرى في المبنى نفسه في المصيطبة. المستأجرون القدامى الذين لم يلجؤوا الى تصعيد موقفهم في وجه الخبراء، عادوا ليندموا على تساهلهم. "يا ليتنا فعلنا مثلك ولم ندخل في هذه المعمعة". مفاد الأمر. هل ما فعله كريم يجنّبه المثول امام المحكمة لتحديد بدل مثل؟ أم أن ارتدادات ذلك الفعل ستطاله في النهاية؟
الى متى رفض استقدام الخبراء؟... 2 آب الى الشارع
يعتبر بعض المستأجرين القدامى ان اجراءات تحديد بدل المثل مجرّد متاهة، ولا يريدون الدخول فيها. وهم يستعدّون الى التظاهر يوم الثلثاء الواقع فيه 2 آب المقبل، أملاً منهم في عدم تمرير القانون الذي برأي بعضهم سيحوّلهم الى مجرمين بعد ان يرميهم على الطريق. "في 2 آب نذهب لنقول للزعماء المتحاورين انكم تفتعلون مشكلة كبيرة للشعب اللبناني. ربع اللبنانيين تضرر بسببكم وسيصبحون في الشارع. وانتم لستم تسألون عن شيء. سنطلق صرختنا ونطالب بحقنا في السكن. فليأخذ المالك حقه بإنصاف وليأخذ المستأجر حقه بالسكن، ومن واجب الدولة تأمينه". بهذه العبارة يختصر كرم الغاية من التظاهرة المرتقبة قبل أن يؤكّد أنه مع إنصاف المالك ولا يقبل ان يتمثّل الايجار السنوي بمليون ليرة لبنانية، ولكن هذا لا يعني ان يقفز الى 30 مليوناً. هذا يعني برأيه زيادة تبلغ 3000% على قيمة المأجور من دون إيجاد بديل سكني. ويضيف: "نحن لسنا في سويسرا. هو قانون سويسري يطبق على شعب قندهاري".
ويحمّل المسؤولية الى الدولة التي برأيه لم تنصف المستأجر اليوم رغم انها ظلمت المالك قديماً، ملمّحاً الى أنه ليس بهذه الطريقة ينصف المالكون حيث الاحياء ستفرغ من سكانها. ويتابع: "في هذه الحالة عندما تشرّد عائلة تقطن في مكان واحد منذ 50 سنة، انت تحوّلها الى عائلة مجرمة والله ينجينا من الأعظم في حال لم يتدارك الموضوع". "ماذا عن املاك المستأجرين في مسقط رؤوسهم؟ لماذا لا يعودون اليها؟"، يجيب أن "البنى التحتية والخدمات في القرى النائية غير متوافرة. فليفعّلوا اللامركزية الادارية ويأخذوا منا ما يريدون. انا اعود الى قريتي وهذا شغفي. لكن العديد من المستأجرين باعوا منازلهم واراضيهم ليسكنوا في بيروت ويعلموا اولادهم. ماذا سيفعل هؤلاء؟".
رزق الله: "التظاهر دعوة الى احتلال المنازل"
تترجم عمليّة تحديد بدل المثل، بحسب المادة 18 من القانون الجديد للايجارات، بالسماح للمالك بالاستعانة بخبيرين في حال اختلف المالك والمستأجر على تحديد قيمة بدل المثل، ومن حق المستأجر الاستعانة بخبيرين بعد انقضاء مهلة الشهرين. "لا يحق للمستأجرين الاعتراض على الاستعانة بالخبراء لأن القانون واضح والمالك يطبّق القانون وبحوزتنا قرار قضائي بالموافقة على مؤازرة قوى الأمن للخبراء. كل ما يقولونه غير دقيق ولا شيء موثّق ونحن نتعامل مع الأمور الموثّقة. القانون نافذ ولو لم يكن كذلك لما وجدناهم في الشارع يطالبون بالتظاهر"، يقول رئيس نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجّرة باتريك رزق الله في حديث لـ"النهار" شاجباً محاولات الاعتراض. ويشير الى أن المستأجرين لا يعترضون، ولكن ثمة مجموعة تدعي تمثيلهم وتحرّضهم على رغم أن القانون الجديد لا يرمي احداً في الشارع بل يمدد لهم 12 سنة بعدما قطنوا 40 سنة مجاناً.
وعن موقفه من لجوء بعض المستأجرين الى التظاهر في 2 آب، يقول: "نحن ضد التظاهر ونرفض التحريض ضد حقوقنا وهذا نوع من التحريض ضد قانون نافذ، وهو نوع من الغطرسة ودعوة الى احتلال المنازل والتسلط عليها. والهدف منها خلق نزاعات قضائية وبلبلة بين الناس". ويتساءل: "يتظاهرون ضد من؟ وماذا يريدون؟ أن يعودوا الى الاقامة المجانية؟ القانون معنا ولن نتخلّى عن حقنا في الملكيّة وعن تقاضي بدلات عادلة للايجارات مهما كان الثمن، وندعو المالكين الى عدم التهاون في تطبيق القانون".
على المالكين الاستعانة بخبير قانوني مكلّف من القضاء
لمعرفة التفاصيل القانونية الدقيقة لحقّ الخبراء في دخول المنازل القديمة المستأجرة هدفاً منها لتسعير بدل المثل، كان لـ"النهار" حديث مع المحامي إيلي اقليموس، الذي يعتبر أنه "اذا كان الخبير القانوني مكلّفاً من القضاء ومعيّناً بقرار قضائي، هذا يجبره على الذهاب الى المنزل والقيام بمهمته التي تعتبر قانونية وقضائية. المالك له الحق هنا في طلب مؤازرة القوى الأمنية لإجبار المستأجرين القدامى على السماح بالدخول وتثمين بدل المثل. أما اذا كان الخبير مكلّفاً من المالك مباشرةً، يجب حينها الاطلاع على عقد الايجار". ويشير الى أن قانون الايجارات الحديث يضع بنداً على العقد يتيح خلاله للمالك، أن يزور ملكه ساعة يريد وكيف ما يريد، ولكن في عقود الايجارات القديمة قد لا يكون هذا الاشتراط موجوداً.
حينها يمكن برأيه للمستأجر أن يتذرّع في أنه لا يستطيع ادخال الخبراء لأنهم لم يأتوا بأمرٍ من المحكمة. ويحق للمستأجر كصاحب الحيازة على المأجور في هذه الحالة، أن يستخدم ذريعة حرمة المنزل ليمنع الخبير من الكشف عليه. لكن تلك الذريعة تصلح بشروط معيّنة، خلال وقت أو ساعة محدّدة يرتئيها المستأجر، ولكن ذلك لا يمنع المالك من زيارة املاكه ساعة يشاء. في النهاية المالك يبقى مالكاً. والمستأجر لم يتحوّل الى صاحب ملك. وبالتالي ان حقّ الملكية هو حق مكتسب وحقّ مقدّس في الدستور.
ويقترح اقليموس على المالكين، منعاً للالتباس في المسألة، جلب خبير مكلّف من المحكمة من خلال تقديم استدعاء لقضاء الأمور المستعجلة والادعاء لطلب تعيين خبير للكشف على العقار وتحديد مهمّة الخبير، وبالتالي يكون في حوزة المالك أمر قضائي، ما يعني الحقّ في مؤازرة القوى الأمنية لضمان قيام الخبير بواجبه والعمل بمهمّته التي كلّفته بها المحكمة. ويستبعد احقيّة ما فعله مستأجر المصيطبة، مشيراً الى أن القانون أصبح نافذاً ولا يمكن التراجع عنه، لا بل انه من المتوقّع تطبيقه على المحلات التجارية المستأجرة في العامين المقبلين.
عقودٌ من العمر مرّت انتظر خلالها أصحاب الأبنية القديمة المؤجّرة، استعادة ممتلكاتهم من لعبة الانتظار. هم عاشوا الحاضر في قالب الماضي. ولا بد لهم أن ينجوا بالغد. أن لا ينظروا الى مبانيهم من عين حلمٍ مسجون. لا بأس في عودة المستأجرين القدامى الى قراهم في آخر العمر. من يمتلك منهم منزلاً، هجروه بحكم التوق الى المدينة. أما المسنون منهم الذين لا يملكون معيلاً، او سقفاً يؤويهم، عسى ان لا يكون مصيرهم في لحظة تشرّد واحدة، أقسى من ضريبة السنوات الطويلة التي دفعها مالك السقف.
مجد بو مجاهد