كل الملفات الداخلية معلّقة على خط التوتر العالي، فالسياسة متأرجحة بين الانقسامات، والنفط البحري يتقلّب على نار المزاجيات، والموازنة تتقاذفها هبّة ايجابية باردة بإمكان إعدادها قريباً وللمرة الاولى منذ العام 2005، وهبّة سلبيّة ساخنة بتعطيلها وقطع الطريق عليها نهائياً، وامّا المفتاح الرئاسي فيبدو انه ما يزال ضائعاً في قعر التعقيدات المحلية والخارجية. واذا كانت مواجهة الإرهاب التكفيري الداعشي الذي يتهدّد لبنان قد استوجبت جهوزية عالية ويقظة من الجيش والاجهزة الامنية لرد هذا الخطر الخارجي، ومنع تمدده الى الداخل اللبناني، فإنّ الأولوية التي باتت ضرورية، واكثر من ملحّة، هي ردّ الخطر الداخلي عن اللبنانيين، المتمثّل في محاولة «تسميم البلد»، المتأتية عن فلتان بعض التجار وجشعهم وإغراق السوق المحلي بالسموم الكامنة في مواد استهلاكية فاسدة غير صالحة للاستهلاك البشري، والتي كان من نتيجتها الفورية عشرات حالات التسمّم الغذائي في عدد من المناطق اللبنانية. ولعلّ أوجب واجبات الدولة امام هذا الخطر، هي المبادرة الى إعلان حالة «طوارئ غذائية» والشروع فوراً بإجراءات عقابية رادعة وقاسية بحق كل الضالعين في هذه الجريمة.
سافر رئيس مجلس النواب نبيه بري في رحلة خارجية خاصة، آخذاً فترة استراحة طوعية من «الاشتباك النفطي»، ولكن من دون ان تغادره خيبة الأمل ممّا يعتبره التعطيل المستغرب وغير المبرر لهذا الملف.

كما انه ماض في رهانه على إمكان ان تحيط القوى السياسية الجلسات الحوارية الثلاث التي دعا اليها مطلع آب المقبل، بإرادات صادقة وحاسمة لصَوغ حلول ومخارج للازمة السياسية، وخصوصاً على المستوى الرئاسي.

وامّا رئيس الحكومة تمام سلام، فهو يستعدّ للسفر الى موريتانيا للمشاركة في القمة العربية نهاية الاسبوع، حاملاً الى القادة العرب طلب لبنان مساعدته على مواجهة اكثر الملفات ثقلاً عليه، والمتمثّل بموضوع النازحين السوريين، مع ما ينطوي عليه من عبء ضاغط على الواقع اللبناني برمّته سياسياً واقتصادياً، آملاً ـ كما تقول اوساطه ـ في ان يلقى آذاناً صاغية في القمة واستجابة تمنح لبنان القدرة المعنوية والمادية على التصدي لهذا الضغط وتجاوز الاعباء الكبرى على كاهله والتي تتفاقم يوماً بعد يوم.

درباس

وعشيّة سفر سلام الى نواكشوط، قال وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس لـ«الجمهورية»: «انّ لبنان سيؤكد مجدداً مواقفه الثابتة من مسألة اللجوء السوري، فالسوريون اخواننا وأهلاً وسهلاً بهم، ونحن نتعاطى معهم بكل أخوّة، لكنّ فكرة توطينهم واعارة الاراضي او استئجارها او بيعها او بيع جوازات السفر غير واردة عندنا».

واضاف: «سنتقدم باقتراحات عدة منها ان تتبنّى القمة العربية مسألة المطالبة بمناطق آمنة للسوريين داخل سوريا. وربما سنقترح إنشاء صندوق عربي لرعاية حال اللجوء العربية ودعم لبنان الذي يستضيف نصف عدد سكانه من الشعوب العربية».

الرئاسة... جمود

رئاسياً، وفي موازاة الكلام الذي تردد مؤخراً عن محاولات حثيثة لإنضاج الملف الرئاسي في الاشهر القليلة المقبلة، كشفت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية» عن حركة اتصالات كثيفة تجري عبر القنوات المحلية والخارجية حول الرئاسة في لبنان، وبوتيرة اسرع ممّا سبق، الّا انها ما زالت في الاطار الاستطلاعي لا أكثر، من دون بلوغ تقدّم جوهري يعتدّ به.

ولفتت المصادر الانتباه الى انّ القاسم المشترك في حركة الوفود الغربية التي تكثفت في الآونة الأخيرة، انها لا تنطوي على اية مبادرات جدية، بل هي كناية عن تمنيات تَحضّ اللبنانيين على التوافق في ما بينهم وإنجاز الاستحقاق الرئاسي في اقرب وقت ممكن، مع مباركة اي جهد داخلي يخدم الإسراع في انجاز الاستحقاق.

وتمّ التركيز في هذا السياق على مبادرة بري وجلسات الحوار التي حددها في آب، وكذلك على الطرح الذي يسوقه رئيس «اللقاء الديموقراطي»النائب وليد جنبلاط للوصول الى تسوية رئاسية.

الرابية... تفاؤل

على انّ اللافت للانتباه هو أجواء التفاؤل التي تسود الرابية، بالتزامن مع كلام يتردد في اوساط قريبة من انّ حظوظ رئيس تكتل «الاصلاح والتغيير» النائب ميشال عون قد ارتفعت رئاسياً.

ويلاحظ زوّار الرابية شعوراً بالتفاؤل الجدي، والقريبون من عون يغمرهم شعور بإمكانية بلوغ إيجابية ملموسة على هذا الصعيد، في وقت ليس ببعيد.

وأبلغ بعض الزوّار «الجمهورية» قولهم: «رياح التفاؤل تضرب الرابية، وتبدو مرتاحة جداً الى الاجواء المحيطة بالملف الرئاسي، وهي على يقين بأنّ الامور مهما لَفّت ودارت ستعود الى الجنرال عون».

ويلفت الزوار الانتباه الى انّ الرابية تعوّل على تبديلٍ ما في موقف الرئيس سعد الحريري، بعدما ابدى جنبلاط استعداده للسير بترشيح عون. وهي تتوقع دخول الحريري في حوار مع المسؤولين السعوديين لحسم الموقف خصوصاً انّ المملكة لا تضع اي فيتو على ترشيح عون».

وإذ يشير هؤلاء الى انّ الاتصالات مع «بيت الوسط» مستمرة ولم تنقطع يوماً، فإنهم لا يبدون ايّ خوف ممّا سمّوه «تقلبات جنبلاطية»، خصوصاً انهم يعتبرون انّ جنبلاط يقرأ المرحلة جيداً وهو رأى انّ مصلحة لبنان اليوم هي السير بترشيح عون».

بكركي وطرح جنبلاط

الى ذلك، اكدت مصادر كنسية بأنّ البطريركية المارونية تواكب عن كثب حركة الإتصالات الرئاسيّة الداخلية مع القوى الفاعلة محلياً، والخارجية مع فرنسا وبقية الدول الفاعلة. وقالت لـ»الجمهوريّة»: «إنّ الرئاسة تحتاج الى معجزة، فكلّ المبادرات لم توصِل الى الحلّ المطلوب».

ولفتت المصادر الى انّ النائب جنبلاط وخلال لقائه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، لم يطرح حلاً كاملاً، بل قدّم أفكاراً بإمكانها المساهمة في التسوية، والبطريرك الراعي يؤيّد كل ما يمكن ان يساهم بانتخاب رئيس سريعاً، لكن يبدو انّ الأفق ما زال مسدوداً، خصوصاً انّ التجارب السابقة لم توصِل للنتيجة المرجوّة، فصدمة ترشيح الرئيس سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية لم تفتح أبواب بعبدا، والتحوّل التاريخي على الساحة المسيحيّة، والذي تمثّل بترشيح الدكتور سمير جعجع للعماد ميشال عون لم يعطِ ثماره الرئاسيّة المُبتغاة.

وبالتالي، فإنّ اية مبادرة حالياً ومن ضمنها أفكار جنبلاط يجب أن تتمتّع برضى داخلي أولاً، وبقبول إقليمي ودولي ثانياً، خصوصاً انّ الازمة الإقليمية والنزاع السني- الشيعي هما ما يؤخّر انتخاب رئيس جمهورية لبنان».

ترو

وفي السياق قال عضو «اللقاء الديموقراطي» النائب علاء الدين ترو لـ»الجمهورية»: «الظروف مؤاتية للتسوية، لكنّ المسؤولين ليسوا جاهزين لها». اضاف: «الظروف مؤاتية في كل ساعة، وكانت كذلك منذ ثلاث سنوات، عندما كان الرئيس ميشال سليمان في بعبدا ولدى مغادرته، وهي مؤاتية على رغم التعطيل فلا احد يمكنه تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية اذا كانوا يريدون انتخاب الرئيس، لكنهم لا يريدون ذلك.

انا اقول انّ الكرة هي في ملعب النواب اللبنانيين، والتسوية التي يدعو اليها النائب جنبلاط هي الآن فرصة مؤاتية لانتخاب الرئيس، فليس المهم الأسماء بل الرئيس».

الراعي في القاع

من جهة ثانية، وفي خطوة بالغة الدلالة، يزور البطريرك الماروني اليوم بلدة القاع البقاعية، لتقديم العزاء لأهلها ومواساتهم بشهداء البلدة الذي قضوا في الهجوم الارهابي الذي استهدفها الشهر الماضي.

واكّد راعي أبرشية دير الأحمر وبعلبك للموارنة المطران حنّا رحمة لـ»الجمهورية» أنّ «زيارة الراعي هي للقول الى القاعيّين إننا معكم ولن نترككم أبداً في مواجهة الإرهاب، وما تعرّضتم له أصاب البطريركية المارونية في الصميم والمسيحيين والمسلمين على حدّ سواء، لذلك من واجب كل مواطن الوقوف الى جانب الأهالي الذين حَموا كل لبنان وليس بلدتهم او البقاع».

وأوضح أنّ «الراعي كان في اميركا أثناء التفجيرات، ومن واجبه كأب لرعيته زيارة أبنائه لأنّ ربع الموارنة موجودون في لبنان والبقية يتوزّعون على أبرشيات العالم التي يوازي عددها عدد ابرشيات لبنان، وقد أوفَدني مع المطران منير خيرالله للوقوف الى جانب الأهالي. وعندما عاد، كان في سلّم أولوياته زيارة أبنائه في القاع».

ولفت رحمة الى أنّ «الراعي سيُدلي بسلسلة مواقف، أبرزها ما يتعلّق بالواقع الأمني»، موضحاً أنّ «خطر النزوح السوري بات وجودياً ويهدّد كل لبنان، وليس المسيحيين وحدهم خصوصاً انهم يتغلغلون في القرى والمدن».

ودعا الدولة وكل لبناني الى التحرّك سريعاً لمعالجة هذه المسألة «وإلّا سنخسر البلد»، مشيراً الى «وجود نوعين من التواجد السوري، فالنوع الأول همّ العمال ويجب تنظيم وجودهم مثل كل العمال الأجانب. ويتمثّل النوع الثاني بالنازحين، وهنا يجب حلّ المشكلة سريعاً، فمن يؤيّد النظام عليه العودة الى المناطق الآمنة التي تقع تحت سيطرته، ومن يؤيّد المعارضة عليه العودة الى المناطق التي تقع تحت سيطرتها، ومن يتعذّر عليه العودة على الدولة جَمعهم في مناطق على الحدود خاضعة للسيطرة الامنية».

وشدّد على أنّ «لبنان لم يعد قادراً على تحمّل أعباء النزوح، وعلى الدولة ان تحزم امرها سريعاً وعدم تكرار أخطاء الماضي، لأنّ السوريين باتوا ينافسون اللبنانيين في المجالات كافة، كما انّ الخطر الأمني بات كبيراً».

موازنة... أو لا موازنة!

على صعيد آخر، توحي الاجواء المحيطة بالتحضيرات الحكومية لإعداد الموازنة العامة بأنّ طريقها ليس مفتوحاً بالكامل، بل انها قد تكون مفروشة بالكثير من اسباب العرقلة.

وفي موازاة التشكيك بإمكان ولادة الموازنة، والذي يقابل بتأكيد على وجوب تسهيل صدورها، قال وزير المال علي حسن خليل لـ»الجمهورية»: الموازنة العامة للعام 2017 ستكون جاهزة قبل موعدها الدستوري.

ولفت خليل الانتباه الى انه «بصَدد بلوغ المراحل النهائية في إعدادها، وهي ستُعرض على مجلس الوزراء فور تعيين جلسة مخصصة لها».
وقال: «سأقوم بهذه المهمة على أكمل وجه وفي اقصى ما يمكن، مع الحاجة لضغط معنوي والإسراع في المناقشات من قبل الافرقاء السياسيين».

ورفض خليل الحكم على النيّات، وما اذا كان هناك من يُحاول تعطيل الموازنة، وقال: «سأقوم بما عليّ، ولتتحمّل القوى السياسية مسؤوليتها في هذا الاطار».