الاوساط الديبلوماسية الغربية في بيروت تقول انه لو نجح الانقلاب في تركيا لكان كصاعقة تضرب الشرق الاوسط، وبطبيعة الحال تتبعثر قواعد اللعبة، بل ويتبعثر اللاعبون...
وحين كان رجب طيب اردوغان يقطع رؤوس الجنرالات والقضاة، وحتى بعض مستشاريه، بإقصائهم عن مناصبهم او باعتقالهم او حتى بجلدهم، بدأت الاوساط اياها تتحدث عن سلسلة من الصواعق التي ستشهدها المنطقة بعدما كان واضحاً أن الازمات في سوريا والعراق تدار من اسطنبول ومن قبل جهاز الاستخبارات التركي.
الكلام الذي يتردد الآن في الاوساط ا ياها يحفل بالتوقعات الدراماتيكية. لا يعرف ما اذا كان صحيحا ان الروس والايرانيين عرضوا عليه، وبمجرد ظهور بتقنية السكايب، المساعدة لمواجهة الانقلابيين. ولدى الجانبين الكثير مما يستطيعان فعله في هذه الحال.
الرئيس التركي اطلق مواقف يمكن ان تحدث تعديلات مثيرة في خارطة العلاقات في المنطقة. قال انه سيدير ظهره للخلافات مع الجوار. من هو الجوار الذي يتحدث عنه، فهل سيمد يده ثانية الى دمشق او الى بغداد ليكتشف ان اولئك الذين بذل جهوداً هائلة لتفجيرهم وتفكيكهم لا ينظرون  الى تركيا سوى انها «الجار العزيز»، حتى ان البعض حاول تقليد النموذج التركي في محاولة للدخول في العصر.
المعلق الاميركي الشهير من اصل هندي فريد زكريا قال ان اردوغان قرر ان يوقف رقصة التانغو مع الحطام الذي كاد، في ساعات هائلة، ان يحوله الى حطام...
لا بل انه يتساءل ما اذا كان الذي حدث، ولا شك انه احدث هزة كبيرة في المشهد الجيوبوليتيكي في المنطقة، يمكن ان يحد من التصاعد الدرامي للصراع بين المملكة العربية السعودية وايران.
هذا ايضاً رأي سياسيين غربيين، من بينهم وزير الخارجية الفرنسي السابق ابوير فيدرين الذي يرى ان الصراع الداخلي في تركيا والذي سيستمر لمدة طويلة، سيجعل هذه الدولة الاطلسية والحائرة بين نصفها الآسيوي ونصفها الاوروبي، سيجعل اردوغان يبتعد عن ذلك الصراع العبثي الذي يستنزف الاطراف كافة دون ان يجنب احد شيئاً في نهاية المطاف.
ساسة آخرون يرون ان الرئيس التركي «يشبه رقاص الساعة». كان شقيقاً لبشار الاسد ثم اصبح شقيقاً لابي بكر البغدادي. وهنا يقول مصدر في المعارضة السورية (غير المسلحة) لـ«الديار» ان صديقاً له وهو عضو في «الائتلاف الوطني» خائف من «ان يقبضوا علينا ويزجونا في السجون».
عضو الائتلاف يعتبر انه اذا ما قرر اردوغان اعادة العلاقة الطبيعية مع دمشق، فهو لن يتردد في فعل اي شيء، وربما تسليم اعضاء الائتلاف الى بشار الاسد او ترحيلهم الى اي مكان آخر لانه قرر ان يتفرغ لتركيا.
وتشير مصادر ديبلوماسية الى ان هذا ما تتوقعه وكالة الاستخبارات المركزية التي تعتبر ان اردوغان شخصية مكيافيلية «كاملة الاوصاف». المشكلات الداخلية المتراكمة تحمله على حصر نشاطاته بعدما ذهل عندما اطلع على اسماء الذين شاركوا في المحاولة الانقلابية.
وبحسب هذه المصادر، فان اردوغان فوجىء ببعض الاسماء التي كانت تعبر له عن الولاء المطلق (والحب المطلق). من الآن وصاعداً قد يشك في زوجته، ولا يريد لعبدالله غول او لاحمد داود اوغلو ان يقفا الى جانبه لاعتقادهما انه في حالة من الضعف تستحق بعض الشماتة به من خلال اظهار التعاطف.
من دون تركيا لا مجال للصراع السعودي ـ الايراني ان يأخذ مداه، ودون ان يبقى سراً أن هناك داخل العائلة المالكة من ينظر بارتياب الى الرئىس التركي على انه يستخدم السعودية لاغراضه الخاصة، وهذا ما يدركه السعوديون جيداً، ولكن عندما يكون هناك صراع مع ايران، وعلى سلسلة من الجبهات، لا بد من التعاون مع انقرة، والا سيكون هناك اختلال مثير في موازين القوى، وحتى في المجال الديموغرافي.
اذا ادار اردوغان ظهره للأزمة في سوريا، فهذا يعني اقفال نصف هذه الازمة على الاقل، وهذا ما ظهر في الايام الاخيرة على جبهة حلب. كان الاتراك يقدمون خدمات لوجيستية وعملانية لا يمكن تصورها، وتصور مدى تأثيرها في عملية رسم الخرائط على الارض.
وتعترف قيادات معارضة، لا سيما تلك التي على ارتباط مباشر مع انقرة، بأنها تستشعر تخلي انقرة عنها في لحظة ما، وهذا ما سيكون له حتماً تأثير كبير على مجرى الاحداث العسكرية.
ويقول خبراء عسكريون استراتيجيون انه مهما رفعت السعودية من مستوى مساعداتها للفصائل المعارضة، فان خسارة الوصي التركي ستكون له ارتداداته الخطرة على الارض.

ـ الخنجر الكردي ـ

اعلاميون مقربون من حزب العدالة والتنمية يتحدثون عن «الخنجر الكردي»، كما لو انهم يتحدثون عن الخنجر الاميركي. لم تفعل واشنطن شيئاً لمد يد العون في تلك الساعات الحرجة. من آزروه ليسوا من الفريق الاميركي او الاطلسي.
المؤسسة العسكرية التركية الآن في مأزق. هناك ضباط لم يشاركوا في الانقلاب ويمثلون مواقع حساسة ابعدوا او اعتقلوا لاسباب وصفت بأنها تتعدى اللامعقول، ليبدو ان الشرطة الامنية، واجهزة الاستخبارات، هي الذراع الحديدية لاردوغان الذي ما زال خائفاً حتى الآن من تحليق طائرات الهليكوبتر فوق اسطنبول.
جيو سياسياً، يقولون في الغرب ان اردوغان لا يعرف اين يضع قدميه في الوقت الحاضر توقيف الطيارين اللذين اسقطا قاذفات السوخوي الروسية ليس بالاشارة العادية كثيرون في اميركا واوروبا يقولون ان محاولة الانقلاب حولت الرئيس التركي الى شخص على حافة الجنون.

ـ الصاعقة التركية ـ

هل مسموح له حقاً ان يتجه شرقاً اي الى الكرملين؟ هذا ممنوع اميركياً، وعليه ان يعلم ان الخنجر الكردي، وهو الخنجر القاتل، في يد الولايات المتحدة التي لن تسلمه فتح الله غولن في حال من الاحوال.
الاسابيع المقبلة تكشف ما يمكن ان تفضي اليه الصاعقة التركية. المؤكد ان تغيراً حصل في المشهد الاقليمي. اذا انكفأت تركيا الى الداخل، هل يمكن ان تكون اسرائيل هي البديل العلني عن الظهير التركي؟
في كل العواصم العربية، وصولاً الى بيروت بطبيعة الحال، اسئلة خطيرة حول تركيا. كلها تشي بأن نتائج ما حصل ستظهر في خطوات على الارض السورية. ماذا اذا سحب اردوغان اصابعه (فقط اصابعه؟) من سوريا؟

ـ اين هي تركيا؟ ـ

شخصيات سياسية وديبلوماسية عربية تعتبر ان القضية ليست اين هو اردوغان بل اين هي تركيا التي طالما كانت مركزاستقطاب، وسواء عبر النموذج الاتاتوركي او عبر النموذج الاردوغاني؟ كل المشاهد تؤكد انها تحولت الى دولة بوليسية. اين الوجوه المقطبة للجنرالات؟ واين الوجوه التي لا تخلو من الزهو لدى السياسيين؟
الشخصيات اياها تقول ان تركيا التي نعرفها، وبالنموذجين الرائدين، سقطت. ما هو تأثير ذلك على المنطقة العربية، واستطراداً على لبنان الذي قد يكون من بين البلدان العربية القليلة حيث يوجد من يهلل للإبادة السياسية (المسألة لا تقتصر قطعاً على الجماعة الاسلامية) في اتجاه الاسلمة الكاملة للدولة. استطراداً، احلال حسن البنا وسيد قطب محل كمال اتاتورك وعصمت اينونو.
لبنانياً، وقبل نحو اسبوعين من ثلاثية آب، تبدو المواقف السياسية سريالية اللغة بهلوانية بما تعنيه الكلمة حتى ان احد المراجع لم يتورع عن التنبيه «يا جماعة، رئيس الجمهورية ليس كمية من الافيون نحاول تهريبها الى القصر الجمهوري».
فعلاً السفراء الاجانب يعتبرون ان ما يقال عبر الشاشات يحتاج الى خبراء في فك الطلاسم. «حزب الله» و«القوات اللبنانية» يقفان الى جانب العماد ميشال عون، وبأقصى قوتهما، لكنهما لا يلتقيان، لا بل انهما في حال مواجهة سياسية عاصفة. اما الرئيس بري فقلبه و«ضميره» مع النائب سليمان فرنجية، ولكن في اللحظة الحرجة ستكون ورقة التنمية والتحرير مماثلة تماما لورقة الوفاء للمقاومة.
الحريري، وكما قال جعجع، ماض في ترشيح رئىس تيار المردة، لكنه مستعد لتسهيل اي جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية. هذا الكلام بحاجة الى من يفسره. هل يكفي ان يسهل رئيس تيار المستقبل عملية الانتخاب ولا يشارك في انتخاب الجنرال، وهو الذي يطرح نفسه كمرشح توافقي، فيما الحريري لا يمتلك اكبر كتلة نيابية فحسب بل هو زعيم الطائفة السنية دون منازع.
المنتظر من الحريري موقف آخر «الجنرال شر لا بد منه». حينذاك تنكشف كل الاوراق بعدما ضاق اللبنانيون ذرعاً بالتهم اليومية التي تطلق ببغائياً.
النائب وليد جنبلاط كان يتعاطى مع الوضع بانورامياً حين قال بالتسوية قبل التسمية. هو الذي يعلم ان الاسم لا يغير في الواقع شيئاً، كما ان ملء الشغور لا يقدم ولا يؤخر اذا لم تكن هناك تسوية ومبنية على اسس منطقية ومتينة.

ـ لا احد سوى عون ـ

رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يقرأ جيداً مسار التطورات في المنطقة والذي ينظر بتشاؤم شديد الى تداعيات الحدث التركي، يريد وقف الحلقة المفرغة التي يدور فيها الفراغ الرئاسي. لا احد هناك سوى عون فلماذا لا توظف بعض البراغماتية في هذا الاتجاه؟
الحريري هو من يمسك بمفاتيح القصر، فهل يمسك عون بمفاتيح السرايا؟ هنا يظهر المقصود بكلام جنبلاط الذي لا يريد الانتهاء من الازمة الرئاسية للوقوع في سلسلة من الازمات التي قد تكون اكثر حدة وتعقيداً.
ويتردد ان بري يراهن على مفاجأة ما في آب. ان يتصاعد الدخان الابيض من عين التينة بالرغم من قناعته بأن الاشتباك الاقليمي يحجب المشهد اللبناني كلياً.
حتى اشعار آخر الغموض يضغط على الساحة السياسية، خصوصاً مع التداعيات الاقليمية للحدث التركي، ودون ان يكون هناك اي تنسيق اوركسترالي للاتصالات التي تجري. ولكن ماذا اذا فشل حوار الايام الثلاثة؟
في السابق كان السؤال «ما رأي السفير الاميركي؟» الآن السفيرة اليزابيت ريتشارد تمارس حيال لبنان ديبلوماسية الغزل. هذا ما تظهره تصريحاتها ان كان في قصر بسترس او في السرايا الحكومية، غير ان الاصابع الاميركية تظل بعيدة، ولسبب غامض ايضاً، عن السباق الرئاسي...
ريتشارد قالت «لقد كانت اميركا، كما في الحاضر، وستستمر مستقبلاً الشريك الامني الاول للبنان».
هي ديبلوماسية محترفة ولا تقول «الشريك الاستراتيجي». كما لم تقل حتى «الشريك السياسي» كي لا يسألها احدهم «اذاً اين انتم من الاستحقاق الرئاسي».
في الاروقة الاميركية «لماذا الاستعجال؟ الامور ماشية». الامور تحبو يا صاحبة السعادة!