دونًا عن جميع موظفي الحكومية اللبنانية، لن يستطيع وزيرا ما يسمى «حزب الله» في الحكومية اللبنانية الحالية محمد فنيش وحسين الحاج حسن، وهما نائبان أيضًا في مجلس النواب، ولا النواب التسعة الباقون المنتمون إلى «حزب الله»، تسلم رواتبهم الشهرية عبر أي من المصارف اللبنانية. وستضطر الحكومة اللبنانية أن تسلمهم رواتبهم نقدًا من الآن فصاعدًا، بل إنها بدأت ذلك بالفعل.
كل من يشتبه في انتمائه إلى «حزب الله»، صغر شأنه أم كبر، موظفًا حكوميًا أو في القطاع الخاص أو صاحب عمل، لن يستطيع بمقدور أي منهم أن يكون جزءًا من الدورة المصرفية اللبنانية بعد الآن. وما لم تلتزم المصارف اللبنانية بذلك، فإنها ستكون تحت طائلة عقوبات قاسية، قد تؤدي إلى انهيار ذلك القطاع الذي يمد الدولة اللبنانية بالقروض اللازمة لضمان سير عملها بشكل يومي، الذي يزن نحو 6 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي. ويرجع السبب في ذلك إلى قانون أميركي يحاصر حزب الله ماليًا، ليس في لبنان فقط، بل في كل أنحاء العالم. فمعظم المعاملات المصرفية العالمية يتم باستخدام الدولار الأميركي، وهو ما يعني أنها تقع حكمًا تحت عين الرقابة الأميركية وأن تطبيقه واجب!
كرة الثلج
لم يمر يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) 2015 على «حزب الله» في لبنان مرور الكرام! فهو التاريخ الذي أقر فيه الكونغرس الأميركي بشقيه، النواب والشيوخ، قانون «حظر التمويل الدولي لـ(حزب الله)»، الذي يمثل فاتحة حرب مالية لا تعرف الهوادة ضد الحزب. وتكمن استثنائية القرار في أن تنفيذه لا يتم في لبنان وبأيدٍ لبنانية فقط، بل بموافقة ودعم كامل من الدولة اللبنانية وأجهزتها التنفيذية، رغم أن «حزب الله» جزء منها، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الحزب منذ نشأته عام 1983. ويمكن وصف القانون بأنه الاستهداف الأشد تأثيرًا على الحزب ومؤسساته ذات الاتصال المباشر بالجمهور في قلب حواضنه التقليدية في عملية «خنق ممنهج».
في منتصف أبريل (نيسان) الماضي، أعلن مكتب مراقبة الأصول الخارجية في وزارة الخزانة الأميركي بدء تنفيذ عقوبات على المصارف التي تخالف بنود قانون حظر التمويل عبر إيقاع غرامات مالية، إلى جانب منع استخدام شبكة المقاصة الأميركية والدولية والإدراج على لائحة العقوبات الخاصة، الأمر الذي يعني الحكم بالإعدام على أي مصرف يجرؤ على مخالفة القانون. كما استحدث المكتب لائحة إجراءات تنفيذ العقوبات المالية على «حزب الله»، وضمنها أسماء أفراد ومؤسسات تابعة للحزب، وأصدر قرارًا بتجميد أصولهم ومنع المصارف حول العالم من التعامل معهم.
وبالتأكيد، لا تزال الذاكرة المصرفية في كل أنحاء العالم، ومنها اللبنانية بالطبع، طازجة، ولم تنس ما حدث لمصرف «بي إن بي باريبا» الفرنسي قبل عامين بالضبط، عندما تكبد المصرف غرامة باهظة قدرها 8.9 مليارات دولار، فرضتها السلطات المالية الأميركية بسبب انتهاك العقوبات الأميركية الموقعة على إيران والسودان وكوبا في الفترة ما بين 2002 و2009. وهنا أثبتت الولايات المتحدة جديتها المطلقة في تطبيق ما تفرضه من عقوبات.
التعاطي اللبناني
في 3 مايو (أيار) الماضي، أصدر حاكم مصرف لبنان (البنك المركزي اللبناني) رياض سلامة التعميم رقم 137 يحمل تفاصيل لضوابط تتعلق بمن تفرض عليهم عقوبات من المنتمين أو المتعاملين مع «حزب الله»، سواء بصفتهم الشخصية أو الاعتبارية، أفرادا كانوا أم مؤسسات.
واعتبر أن القانون الصادر في الولايات المتحدة هو قانون أميركي مطلوب تطبيقه عالميًا، وأن إصدار التعميم 137 هو واجب قانوني لبناني.
وساق جملة مبررات لإصدار تعميمه الذي أثار غضب «حزب الله» وحلفائه في فريق 8 آذار وثيق التحالف بالنظامين السوري والإيراني، وفي المقابل ارتياح فريق 14 آذار وثيق الصلة بدول الاعتدال العربي والغرب، إذ قال سلامة في بيان عمّق الانقسام السياسي في البلاد: «لا يمكن ضمان الاستقرار التسليفي إذا لم يُطبق هذا القانون الأميركي. إن إصدارنا للتعميم رقم 137 يريح المصارف، ويؤكد ملاءمة العمل المصرفي في لبنان مع ما هو مطلوب دوليًا. ولو لم نفعل ذلك لكان في إمكان المصارف المراسلة تطبيق سياسة التقليص من المخاطر، فيصبح قطاعنا المصرفي معزولاً عن العالم».
ولدى الولايات المتحدة قائمة بالأشخاص والمؤسسات المشمولة بالعقوبات بسبب الإرهاب. ولن يكون بوسع أي مصرف لبناني أن يجري معاملات مع هذه الجهات مع أي مؤسسة مالية أميركية، لأنها قد تعاقب بغرامة مالية أو تتهم بعدم الامتثال للقانون.
وحول آلية التنفيذ، ترك مصرف لبنان الحرية للمصارف اللبنانية في إقفال حساب أي فرد أو منظمة على أساس هذا القانون، شريطة تقديم مبرر لقرارها. ويتعين على تلك المصارف أن تنتظر ردًا من هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، التي وصفها سلامة بأنها «تتمتع باستقلالية وبصفة قضائية».
أما جمعية المصارف في لبنان، وهي اتحاد مؤسساتي يجمع تحت مظلته جميع المصارف اللبنانية، فقالت إن هناك مصارف لبنانية في 33 بلدًا، وإن الضوابط لازمة ليتمكن لبنان من البقاء ضمن النظام المصرفي العالمي، ما يعني تأييدها المعلن للتجاوب المعلن مع القانون الأميركي. وأعلنت الجمعية في 14 مايو (أيار)، التزامها بتطبيق القوانين اللبنانية والمتطلبات الدولية بما في ذلك العقوبات الأميركية بحق «حزب الله»
وبالفعل، بدأت المصارف اللبنانية بمبادرة ذاتية بتطبيق القانون قبل تسلم أي قوائم أميركية، إذ نفى وزير المالية اللبناني علي حسن خليل، ممثل حركة أمل الشيعية داخل الحكومة اللبنانية، تسلّم أي لائحة جديدة بأسماء المستهدفين بموجب قانون العقوبات الأميركية على «حزب الله»، موضحًا أن «اللوائح من هذا القبيل جرت العادة بأن تصدر رسميًا عن وزارة الخزانة الأميركية، ثم يتم تسليمها إلى لبنان على نسختين؛ الأولى لوزير المالية والثانية لحاكم المصرف المركزي، تمامًا كما حدث وقت صدور لائحة أسماء في وقت سابق».
وجاء ضمن مبادرة المصارف لتبرئة ساحتها حصر حسابات الوزراء والنواب والأعضاء البارزين في «حزب الله»، وإبلاغهم بضرورة سحب أموالهم، وبدأت بإغلاق تلك الحسابات. كما بدأت في إغلاق حسابات المؤسسات الخدمية ذات الطابع المدني التابعة للحزب، مثل مستشفى الرسول الأعظم ومؤسسة الشهيد وغيرها من المؤسسات التعليمية. كما طالت الإغلاقات مؤسسات تجارية وخدمية وتعليمية تابعة للمرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، الذي كان يوصف في حياته بأنه المرشد الروحي لـ«حزب الله»، رغم أنه كان يمثل في حياته مرجعية شيعية مستقلة عن المراجع الشيعية الموجودة في المدينتين الرئيسيتين المتنافستين على ريادة العالم الشيعي في قم والنجف.
ردود الفعل والتأثير
لم يوفر «حزب الله» ولا نوابه أو مسؤولوه ولا حتى أمينه العام مناسبة إلا وانتقدوا فيها التعميم 137 الصادر عن مصرف لبنان لتطبيق القانون الأميركي. وكان من اللافت عدم استنكار الحزب للتفجير الذي تعرض له مصرف «بلوم بنك» في أوائل يونيو (حزيران) الماضي. واعتبر نواب الحزب أن التعميم يمهد لحرب إلغاء محلية، يتم شنها بمساعدة مصرف لبنان وعدد من المصارف الأخرى. وحثوا حاكم مصرف لبنان على مراجعته، قائلين إن القانون سيدفع البلاد نحو الإفلاس بسبب ما سينتج من قطيعة واسعة بين اللبنانيين والمصارف، وهو طرح سيمنع فئة كبيرة من اللبنانيين من التعامل مع البنوك خشية التعرض لعقوبات.
وتحاول وسائل الإعلام المقربة من «حزب الله» أن تروج لإحصائية لم يعرف حقيقة مصدرها؛ أن حجم الأموال الشيعية يقارب 50 مليار دولار من مجمل الودائع في المصارف اللبنانية التي يقدر حجمها بين 180 و190 مليار دولار.
ويقول مصدر متابع في بيروت لـ«المجلة»: «سيؤثر القانون بالتأكيد على حرية حركة الحزب في بيئته الحاضنة من حيث تصعيب حركة مؤسساته المدنية، إذ إن مستشفيات الحزب على سبيل المثال لن تستطيع استيراد المواد الطبية أو دفع الرواتب للموظفين بسهولة. أما المؤسسات التعليمية، فستعاني من صعوبات متعددة».
ويضيف: «لم يكن المقصود من القانون التضييق على الجناح العسكري في (حزب الله)، لأنه خارج الشبكة المصرفية، بل المقصود هو استهداف الحاضنة المدنية للحزب. فحتى أعضاء الحزب المقاتلون يتجنبون حمل الهواتف الذكية، حتى لا يجري تعقبهم بسهولة، بل يستخدمون الأجهزة الجوالة التي ظهرت في التسعينات، وهو أمر بسيط، فكيف يكونون جزءًا من الدورة المصرفية؟».
وعاد المصدر بالذاكرة إلى حرب 2006 بين الحزب والدولة العبرية، إذ أتت بعد انتهاء الحرب شحنات هائلة من الصناديق التي تحمل عشرات الملايين من الدولارات عبر الحدود السورية، وجرى دفع تعويضات للمتضررين نقدًا من خلال سماه الحزب آنذاك بـ«المال النظيف»، بعيد سؤال قوى 14 آذار عن مصادر تلك الأموال وكيفية دخولها إلى الأراضي اللبنانية والبدء بتوزيعها دون حسيب أو رقيب.
ويتوقع المصدر أن يقوم «حزب الله» بحركات التفافية عبر حلفائه من أجل الحصول على بعض التسهيلات الائتمانية، إلا أن الأمر لن يكون سهلاً، وقد يحمل بعض المخاطر المستقبلية.
ومن الناحية النظرية، يمكن للمصارف الإيرانية العاملة في لبنان، مثل «بنك صادرات» أن تشكل ملجأً لمؤسسات الحزب المدنية، فيما يتعلق بصرف الرواتب أو بعض التسهيلات الائتمانية، إلا أنها لا تستطيع أن تكون بديلاً عن المصارف اللبنانية، نظرًا لمحدودية قدرات المصارف الإيرانية وإمكاناتها وضعف وصولها والاتصال بالعالم الخارجي.
وفي هذا السياق، يوضح المصدر أن المصارف اللبنانية ستتأثر بشكل أو بآخر، فإغلاق آلاف الحسابات يعني حرمان تلك المصارف من سيولة ليست بالهينة، لا سيما أن ميزانية الحزب السنوية بحسب تقديرات متفاوتة هي بين نصف مليار إلى أقل بقليل من مليار دولار. كما أن الحزب يعتمد كثيرًا على تبرعات رجال أعمال متعاطفين مع الحزب، يرسلون أموالهم إلى لبنان عبر النظام المصرفي التقليدي، ويتوزعون في قارات العالم الخمس، ومنها دول الخليج، التي تعلن كل فترة عن اكتشاف شركات أو أشخاص يمولون «حزب الله»، وتعمل على ترحيل هؤلاء الأشخاص وتجميد حسابات الشركات المشتبه بتورطها.
وينبغي لفت الانتباه إلى قروض منحتها المصارف لأفراد ينتمون إلى الحزب ولا يعرف إن كانت ستعاني في تحصيلها، وهو أمر قد يزيد الضغط على المصارف بوصف تلك القروض «معدومة».
كما أن وزارة الصحة اللبنانية، مثلاً، لها تعاملات مع مستشفى الرسول الأعظم في ضاحية بيروت الجنوبية من خلال الضمان الصحي الذي تقدمه الحكومة للمواطنين اللبنانيين لتحاسب المستفيد نظير العمليات التي قام بها لصالح وزارة الصحة.
مفاوضات شاقة
بعيدًا عن أضواء الإعلام، تجري محادثات شاقة بين مصرف لبنان و«حزب الله» من أجل التخفيف من وطأة القانون الأميركي، خصوصًا على المؤسسات الخدمية.
وتسربت معلومات صحافية بأن مصرف لبنان قد يبدي ليونة في شأن ذلك، إلا أن المصارف اللبنانية ستفضل العمل بقاعدة «تجنب الشبهات» حتى لا يلقى أي منها مصير المصرف «اللبناني الكندي» عام 2013، الذي اتهمته السلطات الأميركية بغسل الأموال لصالح «حزب الله» والتورط في تجارة المخدرات التي رأت السلطات الأميركية أنها مصدر دخل مهم للحزب. وهكذا دفع المصرف 102 مليون دولار غرامة للسلطات الأميركية، واضطر ملاكه إلى تصفيته بعد ذلك، وبيعه إلى مصرف «سوسيتيه جنرال» ليكون جزءًا منه، ويختفي من على الخريطة المصرفية اللبنانية إلى الأبد.
وفي الظل، يجري الحديث عن وساطة يقودها بعض الأطراف الشيعية ذات العلاقة المتوازنة مع الإدارة الأميركية لإيجاد حل وسيط، يضمن الالتزام بالقانون الأميركي مع إيجاد استثناءات في الحدود الدنيا لبعض المؤسسات التي تستفيد منها قطاعات قريبة من الحزب. وقد تسوق الوساطة حجة مفادها أن الاستهداف المباشر قد يزيد من التفاف القاعدة الشعبية حول الحزب، لأن ثقافة المظلومية ذات تأثير عميق في الوجدان الشيعي عبر التاريخ.
ولن يبقى سوى الانتظار لرؤية المسار الذي ستؤول إليه الأمور، ولكن يبقى أن نقل الملاحقات والحصار المالي من الخارج إلى داخل لبنان هو تحدٍ لا يستهان به في ظل شح البدائل أو حتى انعدامها.
معتصم الفلو - المجلة