عام 2000 أخرجت المقاومة اللبنانية إسرائيل من بوابة فاطمة، وأغلقت الباب على مقولة «الجيش الذي لا يُقهر». بعد ستة عشر عاماً، تريد الولايات المتحدة لإسرائيل أن تطل برأسها مجدّداً من «شبّاك» البحر، معوّلة على دخول لبنان معها في «شراكة» لتصدير الغاز، وتالياً، فرض التطبيع كأمر واقع.

في الأسابيع الأخيرة، فهم الرئيس نبيه «المستور»، وكان واضحاً في الرسالة الشفهية التي سلّمها لمساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين، بأن «النزاع على النفط والحدود قد يسبب اندلاع حرب». ومن الطبيعي أنه لمس من حديث زائره الأميركي أن دوافع هذه «الحماسة» الأميركية لا تكمن فقط في الحصول على عوائد مالية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات للبنان أو لإسرائيل، بل أيضاً في السعي إلى تحقيق أهداف سياسية، حيث يُمكن الغاز أن يُسهم في فتح باب لتطبيع نوع ما من العلاقات بين لبنان وعدوه الأوحد.
منذ أن أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون التنقيب في آب 2010، انتظر الغاز والنفط الاتفاق السياسي حوله. أما إسرائيل فقد بدأت فعلياً باستخراجه من حقل تامار عام 2014، قبل أن تكتشف أنه لا يُمكن لها أن تصبح مصدراً مهماً لإمدادات الغاز، لأن إجمالي كميات الغاز المكتشفة في البحر المتوسط، بحسب متابعين، تشكل واحداً في المئة فقط من إجمالي الاحتياطات العالمية، ما يعني أن كلفة التنقيب عنه وتصديره ستكون عالية بالنسبة إلى العائدات المالية منه. هنا أصل الحكاية. بدأت إسرائيل البحث عن «شركاء» لها في التصدير لتتوزّع كلفته على أكثر من دولة. ومن هنا، يمكن فهم السبب الذي دفع الأميركيين إلى رفع الحظر عن التنقيب في البلوكات اللبنانية الجنوبية الثلاثة، ما سمح بالتوصل إلى تفاهم لبناني لا يزال يلقى من يعرقله.
تعود مصادر سياسية مقرّبة من الأميركيين إلى «الاقتراح الذي حمله سابقاً الموفد الأميركي السابق فريدريك هوف للبنانيين وحظي بقبول وزير الخارجية جبران باسيل، فيما رفضه حزب الله والرئيس نبيه برّي». الاقتراح تضمّن حلاً للبلوكات الجنوبية الثلاثة المتنازع عليها. فبما أن «البلوك الثامن المشترك مع إسرائيل وقبرص هو أكثر البلوكات التي تدخل إسرائيل فيه»، عرض هوف أن «تكون للبنان حصّة الثلثين منه، على أن توضع عائدات الثلث الباقي في حساب منفصل لحين التوصل إلى اتفاق». في العلن حاول الموفد الأميركي مساعدة لبنان.

 

لكن، بحسب المصادر، إن «الهدف الرئيسي من هذا الحل يصبّ عند رغبة إسرائيلية في أن يذهب لبنان باتجاه استخراج الغاز وتصديره». أما السبب، فيعود إلى أن «كلفة تصدير الغاز ستكون كبيرة. وهو عادة ما يُصدّر عبر تسييله أو عبر أنابيب خاصة تحت البحر». ولأن إسرائيل تسعى إلى خفض كلفة التصدير، فهي تحتاج إلى من يدخل معها شريكاً في أنبوب واحد، لأن من شأن ذلك أن يقسم التكلفة على الطرفين». وتؤكد المصادر أن الدراسات بينت أن «كلفة إنتاج الغاز ستكون عالية جداً، بالمقارنة مع الربح الذي سيدخل إلى خزينة الدولة اللبنانية»، لذا فإن «عقد اتفاق لبناني ــ إسرائيلي بهذا الشأن سيسهّل تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي ويجعله أقل تكلفة». هذه الفرضية تدعمها معلومات، أشارت إليها مصادر في فريق الثامن من آذار، أكدت أن «الأميركيين رفضوا بداية العمل في البلوكات الجنوبية الثلاثة، لكنهم تراجعوا عن هذا الموقف بعد اتفاق إسرائيل وقبرص على بيع الغاز وتصديره». المصادر نفسها تجزم بعدم إمكانية «حصول هذه الشراكة، إلا في حال واحدة، وهي أن يشنّ العدو الإسرائيلي حرباً علينا وينتصر فيها»، مشيرة إلى أن «اهتمام الرئيس برّي بالملف وإصراره على التمسك بالبلوكات الجنوبية الثلاثة لم يكن بهدف تلزيمها كيفما كان أو لأي جهة كانت، بل من باب تثبيت الحق اللبناني فيها». إذ من غير المنطقي «تلزيم البلوكات السبعة الأخرى في المنطقة الشمالية والوسطى، في مقابل التنازل عن البلوكات الباقية أمام عدو يسعى إلى سرقة كل ثرواتنا». أما باسيل، فيريد أن يبدأ التنقيب عن الغاز بأسرع وقت ممكن، للاستفادة منه في محاولة إنقاذ الاقتصاد اللبناني من الواقع المزري الذي يعاني منه. وفي مقابل نيات الطرفَين اللبنانيين للاتفاق النفطي الأخير، تسرح نية الأميركيين نحو ملعب آخر: إقامة نوع من الشراكة بين لبنان وعدوّه، وهو ما تنبّهت إليه مصادر بارزة في فريق 8 آذار، مشددة على ضرورة «عدم التنازل للأميركيين الذين يريدون ابتزازنا تحت عنوان إيجاد تسهيلات إقليمية لتصدير الغاز اللبناني مستقبلاً».
تعدّدت أساليب التطبيع مع إسرائيل واختلفت وسائله وآليته، وهي تجد دوماً من يسوّق لها. لن يكون صعباً على أحد تصديق المعلومات المذكورة إذا عدنا أولاً إلى حقيقة مطلقة لا يمكن النقاش فيها، وهي أن «الولايات المتحدة يستحيل أن تسمح لأي دولة عربية السير في مشروع على هذا القدر من الأهمية دون أن تأخذ في الاعتبار المصلحة الإسرائيلية منه». وثانياً إلى مواقف عدد الشخصيات العربية المعنية بصناعة النفط والغاز، التي بدأت منذ عام 2011 تسوّق للحوافز المالية التي يمكن أن تكون مدخلاً إلى السلام في منطقة الشرق الأوسط، وأن النزاع السياسي بين إسرائيل ولبنان يمكن أن يحل عبر إيجاد قضية مشتركة في البحر!