قبل أسابيع، أثار الزميل إيلي الحاج زوبعة إلكترونية بسبب ما كتبه في مواقع التواصل الاجتماعي “كلما وقعت جريمة إرهابية باسم الإسلام أقول إنّ الإسلام منها براء، ولكن لكم أتمنّى في الوقت نفسه لو كانت ممكنة إعادة النظر في بعض الآيات القرآنية حتى لو كان كاتبها افتراضا الله ذاته، ألا يمكن أن يعيد الله النظر؟”.
وما أريد قوله إن الحاج -بحكم صدق نيته وصفاء سريرته- قد ظلمته ردود الفعل، والأهم من ذلك، أن القرآن مظلوم حقا من تجار العنف وليس من إيلي الحاج، وإيقافه عن العمل الإذاعي يأتي في سياق التفاخر الطائفي اللبناني الذي شاهدناه سلفا -في المقلب الآخر- في ردود الفعل على موقف النائب السلفي خالد الضاهر من تمثال يسوع.
تدوينة الحاج، جاءت في سياق مفجع، سعوديا على وجه الخصوص، حيث بدأ الإرهاب منذ أشهر ليست بعيدة باستهداف المساجد، وربما يكون مفهوما أن يفعل ذلك متطرف ينتسب إلى دين غير الإسلام، كما شاهدنا في بعض نواحي الهند وبورما وغيرها، لكن أن يصدر ذلك ممن يزعمون الإسلام، فهذا دليل على أن علاقتهم بالدين لا تتجاوز الزعم، ودليل كذلك، على أن الطرفة التي تداولناها منذ سنوات بعيدة أصبحت حقيقة، ولم يتصوّر أحد يوما أنها ستكون واقعا معيشا، تقول الطرفة إن إبليس اختلى بحاكم عربي ليستمع منه، وفي نهاية المقابلة قال إبليس للحاكم “اتق الله”، تذكّرت هذه الطرفة وأنا أتابع أخبار الإرهابي الذي أراد استهداف المسجد النبوي، ﻷننا لو زودنا إبليس نفسه بحزام ناسف، لخجل -قطعا وحتما- من استهداف الحرمين الشريفين، ولعل إبليس قال لذلك الإرهابي -بدلا من حاكم الطرفة هذه المرة- “اتق الله”.
لكنّني أرى في استهداف المساجد، حتى لو كان منفذوها مسلمين اسما فحسب، رمزية أهم وأكبر، وهي أن الإسلام نفسه يعيش أزمة حقيقية، وأول من يفترض أن يشعر بها هم المسلمون، وما ظاهرة داعش وأخواتها كتنظيم القاعدة وجماعة الإخوان وما يسمّى بحزب الله، إلا انعكاسات صريحة لهذه الأزمة، وما قيام الإرهابيين باستهداف المساجد، التي ترمز للإسلام ككل حصرا، إلا صرخة تلخّص معنى تلك الأزمة.
المشكلة التي تواجه الإسلام، ويعانيها المسلمون، هي أن النسخة السائدة للدين، بغض النظر إن كانت إسلاما صحيحا أو تصوّرا خاطئا عن الإسلام، نسخة مصادمة للحياة أو غير قابلة للحياة، والمسلمون مثل كل بني البشر يحبون الحياة ويريدونها، وما التصور الإسلامي للجنة، موعد المتّقين، إلا صورة رفيعة للحياة بحورها وخوارقها وكمالها المفقود الذي يساوي جمالها المأمول، والأهم أن التصور الواقعي للاعتدال هو ابن العقل لا تلميذ النصوص.
حين بزغت بعض دعوات التحرر في أميركا اللاتينية، استطاعت أن تتصالح مع الدين المسيحي حين رفعت شعارا ذكيا وجميلا “نستحق الجنة في السماء إذا استطعنا أن نحققها في الأرض”، وبغض النظر عن مآل ذلك الشعار لاتينيا، إلا أن الملاحظ عند إرهابيي المسلمين أنهم يريدون استحقاق الجنة في السماء بتحويل الأرض إلى جهنّم، وهذا أمر مؤلم ومحزن.
فقهاء المسلمين وسلاطينهم، لعبوا دورا جوهريا في بناء هذه الأزمة، بل إن اختصار أزمة الإسلام والمسلمين هي عجزهم عن نسج علاقة سويّة مع ربّهم ومع حاكمهم، لأن صورة الحاكم في تراثهم تتجلّى كإله صغير، وصورة الإله في موروثهم تبدو كحاكم مستبد، والأسوأ هو قيام العقل الإسلامي بغرس مفهوم الكمال ومفهوم الهوية في الماضي، فلم يعد للمستقبل معنى، ولم يعد للتطوير قيمة، وزاد الطين بلة ربط مفهوم الهوية بالتماثل الداخلي والانعزال الخارجي كما نرى في مفهوم “الجماعة” الذي أباد قيم الفرد والحرية، لا فرق إذن إن أصبح عدد المسلمين مليارا أو مليارين، لأنهم في حقيقتهم نسخ مكررة لرجلين أو ثلاثة، والمشكلة أن هؤلاء الرجال غادروا دنيانا منذ قرون، فغدا أتباعهم أحياء كالموتى أو موتى كالأحياء، ليصبح اعتناق الدين بريدا للتصادم مع الإله الصغير (الحاكم) أو تنفيذا عاجلا ودائما لبطش من يظنونه مستبدا أكبر (الله) في بقية الخلق والعباد.
الاعتراف بالخطأ فضيلة عظيمة، وإصلاح الخطأ فضيلة أعظم، لكننا على مرّ قرون مضت، إن اعترفنا بالخطأ تهيّبنا من معالجته جذريا وجديّا، وما يؤكد ذلك هو مصطلح “تجديد الخطاب الديني” الذي يفيد المراوغة، وكم احترمت المفكر المصري الراحل جمال البنا يوم رفع شعار “تجديد الإسلام”، ولفتني مؤخرا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حين اجترح مصطلحا لا أدري إن قصده عمدا أو صدفة “تصويب الخطاب الديني”، وخلاصة كل ذلك أن الإسلام ليس بحاجة فقط إلى تجديد خطابه، بل هو يحتاج إلى تجديد كليّ وجوهري لا يصح تسميته بغير التغيير.
أصدر المفكر المصري عبدالجواد ياسين قبل سنوات كتابا فخما هو “الدين والتدين”، وضع فيه الإسلام -بمختلف مذاهبه- ندا بند بجوار المسيحية واليهودية فوق طاولة التشريح، وهذا الكتاب يعد امتدادا -من وجهة نظري- لمبحثه السابق “السلطة في الإسلام”، وطالب ياسين لأول مرّة عبر تاريخ الإسلام والمسلمين بالتمييز وبالفصل بين الدين (الجوهر المتمثل في الإيمان ومكارم الأخلاق) والشريعة (الظرف التاريخي الذي شكل الجوهر)، قبل التمييز والفصل بين الدين والدولة، وهذه الدعوة هي لبّ الصواب ومفتاح الحلول، والمبشر أنّ لها جذورا نصية، فالقرآن وصف نفسه كنص تعبّدي معجز لغويا فيه أحسن القصص للعظة وللعبرة، لا دستورا دولتيا وميثاقا أيديولوجيا، وحين تعامل الحكام
والفقهاء والمتطرفون مع القرآن والإسلام وفق مآربهم وقعت الطامة وتحقـــق الالتباس.
قبل سنوات أبعد، كتب عبدالرحمن الراشد “صحيح أنه ليس كل المسلمين إرهابيين، لكنّ أغلب الإرهابيين مسلمون”، وتعليقي اليوم بعد أن أصبحت تلك الزمرة أسوأ نماذج الإرهاب، أنهم قوم فشلوا في الحياة فأفسدوا حياة كل الآخرين.
قبلنا، كان المسيحيون كذلك في عصر محاكم التفتيش وصكوك الغفران، لكنهم نجوا إلى حد كبير بإجراءات قاسية عالجت جوهر المسيحية وتعريفها ومعناها، وخطاب البابا فرانسيس اليوم يمثّلني كمسلم أكثر من سلوك وفتاوى بعض الفقهاء وكل ميليشيات الإسلاموية، الفرد هو الأساس والحرية هي المقدّس والله هو السلام وفي الحب معنى الحياة، وصدق تركي الحمد حين قال “الوسطيّ هو من ينشغل بعلاقته بالله، والمتطرف هو من ينشغل بعلاقة الآخرين بالله”، لكنّ المتطرفين طغوا وتجبّروا، وأهل الوسطية والتجديد والتنوير يساقون إلى المقابر وإلى السجون بسيوف الإرهاب والطائفية والدول الباغية، فلم يعد الإسلام في أزمة، بل هو في عين الخطر، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أحمد عدنان- إيلي الحاج