أم كلثوم هي أعظم وأشهر المُغنين في العالم العربي في القرن العشرين، وعلى الرغم من مرور خمسة عشر عاما على وفاتها، إلا أن أسطواناتها وأشرطتها لا تزال متوفرة في كلّ مكان. وهي معروفة أيضا لدى عدد كبير من غير العرب، نظرا لما لغنائها من تأثير منوّم ومُحزن من جهة أولى، ولكونها وجها بارزا في ذلك الضرب عالميّ النطاق من إعادة اكتشاف الفن الشعبيّ الأصيل من جهة ثانية. بيد أن أم كلثوم لعبت أيضا دورا مُهما في الحركة النسائيّة الصاعدة في العالم الثالث بوصفها “كوكب الشرق” التقيّ الذي مثّل ظهوره على الملأ نموذجا ليس للوعي الأنثوي وحسب بل للياقة الاجتماعيّة المحليّة أيضا. وفي حياة أم كلثوم، دار الكلام عمّا إذا كانت سحاقيّة أم لا، غير أنّ قوّة أدائها قصائد الشعر العمودي بما وُضِع لها من ألحانٍ رفيعة كانت كفيلة وحدها بأن تطغى على مثل هذه الشائعات، فكانت أم كلثوم في مصر رمزا وطنيّا حظي بالاحترام سواء في عهد الملكيّة أم بعد الثورة التي قادها جمال عبد الناصر.
ومسيرة أم كلثوم الفنية مسيرة استثنائيّة من حيث الطول، وقد حظيت عند معظم العرب باحترامٍ رفيع على الرغم من انطوائها على تلك النفحة الرومانسيّة القويّة من الإيروسيّة التي نجدها لدى الراقصة الشرقيّة. فالراقصات الشرقيّات، شأن المُغنية العظيمة نفسها، عادة ما كُنّ يُؤدّين رقصاتهن في الأفلام، وعلى المسارح، والكاباريهات، والأعراس وسواها من الاحتفالات في القاهرة والإسكندريّة. وفي حين لم يكن بمقدور المرء أن يستمتع حقّ الاستمتاع بالنظر إلى أم كلثوم البدينة الصارمة، فإنّه لم يكن بوسعه ألاّ يُمتّع ناظريه بالراقصات الجميلات، اللواتي كانت بديعة مصابني لبنانية الأصل نجمتهن الأولى، فضلا عن كونها مُمثلة، وصاحبة كباريه، ومُعلّمة للمواهب الفنيّة. ولقد انتهت مسيرة مصابني كراقصة مع الحرب العالميّة الثانية، وكانت وريثتها وتلميذتها الحقيقيّة تحيّة كاريوكا، التي هي، في نظري، أروع راقصة شرقيّة على الإطلاق. وعلى الرغم من أن كاريوكا قد بلغت اليوم الخامسة والسبعين من عمرها، إلا أنّها لا تزال فاعلة كممثلة ومناضلة سياسيّة فضلا عن بقائها، شأن أم كلثوم، رمزا بارزا من رموز الثقافة الوطنيّة. فأم كلثوم غنّت في حفل زفاف الملك فاروق في العام 1936، وكانت تلك الحفلة الباذخة ذاتها أوّل ظهور لتحيّة. وقد جلبت لها شهرة لم تفقدها بعد ذلك أبدا.
وفي عزّها كراقصة فريدة، كانت تحيّة كاريوكا تجسيدا لضربٍ من الإثارة بالغ الخصوصيّة، مما جعلها أنعم الراقصات وأبعدهن عن التصريح، كما جعلها في الأفلام المصريّة نموذجا واضحا أشدّ الوضوح لـ “Femme Fatal“*. وحين عُدت إلى عدد من الأفلام التي مثّلتها بين أوائل الأربعينات وعام 1980 وجدتُ 190 فيلما، وحين سألتها في القاهرة ربيع 1989 عن هذه الأفلام، لم تستطع أن تتذكر الرقم الفعلي لكنّها قدرت أن يكون المجموع أكثر من 200. ولا يكاد يخلو فيلم من أفلامها الأولى من رقصة على الأقل، فجميع الأفلام المصريّة التي لم تُرِد أن تُصنّف ضمن “الدراما الراقية” (حفنة وحسب هي التي أرادت ذلك) كان لا بدّ أن تشتمل على نمرة من الرقص المُرافق للغناء. فهذه كانت صيغة أشبه براقصات الباليه التي كانت ترافق الفصل الثاني في عروض الأوبرا الباريسيّة في القرن التاسع عشر: حيث كانت رقصات الباليه هذه تُؤدّى سواء لاءمت القصّة أم لا. وفي الأفلام المصريّة كان من المُمكن لمذيعٍ أن يظهر فجأة على الشاشة ويُعلن عن مُغنّ وراقصة، ليتكشّف المشهد (دونما مسوّغ في الغالب) عن نادٍ ليلي أو قاعة واسعة، ثم لا تلبث فرقة موسيقيّة أن تعزف ألحانها، ويبدأ العرض.
لقد قدّمت تحيّة مثل هذه المشاهد. لكنّها لم تكن أكثر من مسودّات مُختصرة وغير مصقولة لما كانت تُقدّمه في الكاباريهات من عروضٍ كاملة، كنتُ قد شاهدتُ واحدا منها وسيظلّ حيّا يُجفل ذاكرتي ما حييت. كان ذلك في العام 1950. وكان زميلٌ لي مُغامر من زملاء المدرسة قد اكتشف أنّها ترقص في كازينو بديعة المكشوف في الجيزة على النيل (حيث يقوم فندق الشيراتون الشاهق)، واشترينا البطاقات، ووصلنا إلى هناك في المساء المُحدّد قبل ساعتين على الأقلّ من الوقت الذي يُفترض أن تبدأ به، أربعة فتيان مُرتبكين في الرابعة عشرة من عمرهم. كان حرّ النهار في ذلك اليوم الحزيراني قد تحوّل إلى عشيّة مُنعشة عليلة النسمات. وحين أُطفئت الأنوار إشارة إلى دور النجمة، كان كازينو بديعة مُمتلئا تماما، وكانت طاولاته التي يزيد عددها على الأربعين قد ازدحمت بجمهورٍ مصري من غواة الطبقة الوسطى. أما شريك تحيّة في تلك الأمسية فكان المُطرب عبد العزيز محمود، أصلع، بليد الملامح بسترة بيضاء، جاء وانغرس في كرسي من القش وسط المنصّة البدائيّة، وطفق يُغنّي برفقة تخت موسيقي صغير جلس أفراده إلى جانب المنصة. كانت الأغنية “منديل الحلو”، التي تتغنّى مقاطعها التي لا حصر لها، مرّة بعد مرّة وطوال ما يُقارب الساعة الكاملة، بالمرأة التي طوت ذلك المنديل، ومسحت به دموعها، وزيّنت شعرها.
تواصلت هذه الأغنية خمسين دقيقة على الأقل قبل أن تظهر تحيّة فجأةً على بعد بضعة أقدام خلف كرسي المطرب. كنّا جالسين في أبعد الأماكن عن المنصّة، لكن البدلة الزرقاء الوامضة المتلألأة التي كانت ترتديها خطفت أبصارنا، فيا لذلك اللمعان في التّرتِر، ويا لوقفتها الهادئة المضبوطة وهي تقفُ هناك واثقة تماما. إنّ جوهر فن الرقص العربي التقليدي، شأن مصارعة الثيران، ليس في كثرة حركات الراقصة وإنّما في قلّتها: وحدهن المبتدئات، أو المُقلّدات البائسات من يونانيّات وأمريكيّات، من يُواصلن الهزهزة والنطنطة الفظيعة هنا وهنا ما يُحسب “إثارة” وإغراءً حريميّا. فالهدف يتمثّل في إحداث أثر عن طريق الإيحاء أساسا (إنما ليس حصرا على الإطلاق)، وذلك عبر سلسلة من الحوادث المُترابطة معا بصيغٍ مُتعاقبة، أو موتيفات متكرّرة، على ذلك النحو من التوليف الكامل الذي قدّمته تحيّة في تلك الليلة. فموتيف تحيّة الأساسي، بالنسبة لـ “منديل الحلو”، هو علاقتها بعبد العزيز محمود الذي كان غافلا عنها إلى حدّ بعيد. فكانت تنزلق من ورائه، فيما هو يدندن برتابة، فتبدو كما لو أنّها ستقع بين يديه، مُقلّدة إياه وهازئة منه، كل ذلك من غير أن تلمسه البتّة أو تستثير ردّة فعله.
كانت أُحجيتها الشفّافة تتدلّى فوق البكيني المحوّر الذي يُشكّل جزءا أساسيّا من بدلتها دون أن يكون أبدا مصدر جاذبيّتها الأساسي. فجمال رقصها يكمن في تكامله: في ما تُخلّفه من شعورٍ بجسدٍ مُذهل في لدانته وحُسنه يتماوج من خلف عدّة معقدة من الزينة المؤلفة من الشرائط، والأحجية والعقود، وسلاسل الذهب والفضّة، التي تبعث حركاتُ تحيّة فيها الحياة على نحوٍ مُتعمّد وعلى نحوٍ مُفترض في بعض الأحيان. إنّها لتقف، مثلا، وتبدأ بتحريك وركها الأبيض ببطء، الأمر الذي يبعث الحركة في طماقيها الفضيين، وفي الخرز المتدلّي على الجانب الأيمن من خصرها. وإذ تفعل كل هذا، فإنّها ترنو إلى هذه الأجزاء المتحركة وتُثبّت نظراتنا المُحدّقة إليها نحن أيضا، كأنّنا جميعا إزاء مسرحيّة صغيرة مستقلة، مضبوط الإيقاع كلّ الضبط، نُعيد فيها تكوين جسدها على النحو الذي يسلّط الضوء على جانبها الأيمن الذي يبدو كأنّه قد انفصل عن بقية جسدها. كان رقص تحيّة أشبه بأرابيسك متطاول تُحكم صنعه من حول شريكها الجالس. لم تنطتط، أو تهزهز نهديها، أو تتقدّم من أحد لتدفعه أو تحتكّ به. كان ثمّة تروّ مهيب في كلّ شيء بما في ذلك المقاطع السريعة. وعَلِمَ كلّ منّا أنه يعيش تجربة إيروسيّة هائلة الإثارة، نظرا لإرجائها الذي لا ينتهي، تجربة ما كان لنا أن نحلم بأن نصادف مثلها أبدا في حياتنا الواقعيّة. وتلك على وجه الدقّة هي النقطة المُهمّة: فقد كان ذلك ضربا من الجنس بوصفه حدثا عامّا، مُخطّطا ومُنفّذا ببراعة، لكنه مستعصٍ تماما على الاكتمال أو التحقّق.
قد تلجأ بعض الراقصات إلى الحركة البهلوانيّة، أو التزلّق على الأرض، أو التعرّي الخفيف، أما تحيّة فلا. فرشاقتها وأناقتها توحيان بما هو كلاسيكي تماما بل ومهيب. والمفارقة أنّها كانت ملموسة وقريبة كما كانت نائية، لا تُطال، ولا تُنال في آنٍ معا. وفي عالم الكبت الشديد الذي كنّا نعيشه كانت تلكم الصفات تعزّز الانطباع الذي خلّفته تحيّة. وأذكر على وجه الخصوص أنّها ما إن بدأت ترقص حتّى ارتسم على وجهها ما بدا وكأنه بسمة صغيرة مستغرقة في ذاتها لازمتها طوال العرض، وكان فمها مفتوحا أوسع مما تكون عليه البسمة في العادة، كما لو أنّها مختلية بنفسها تتأمّل جسدها وتستمتع بحركاته. لقد طغت تلك البسمة على كلّ بهرجة مسرحيّة مُتكلّفة في المشهد أو في رقصها، فنقّتهما بما انطوت علي من تركيز مفروض على أفكارها العميقة والشاردة. بل إنّني ما من مرأة رأيتها ترقص في الأفلام الخمسة والعشرين أو الثلاثين التي شاهدتها لها، إلا وكنتُ أعثر على تلك البسمة، مضيئة الخلفيّة التي عادة ما تكون سخيفة مُتكلّفة. بسمتها نقطةٌ ثابتةٌ في عالمٍ قُلّب.
لقد بدت لي تلك البسمة رمزا لتميّز تحيّة في ثقافة طلعت علينا بعشرات الراقصات اللواتي يحملن اسم زوزو أو فيفي، معظمهن يوضعن في مرتبة لا تعلو بأكثر من درجة على مرتبة العاهرات. كان هذا واضحا على الدوام في مرال الازدهار المصري، كآخر أيّام فاروق مثلا، أو حين أتت فورة النفط بالخليجيين الأثرياء إلى مصر، وهذا ما يصحّ أيضا على لبنان حين كان ملعب العالم العربي، بآلاف الفتيات الجاهزات للعرض والإيجار. وبدا في مثل هذه الظروف أن معظم الراقصات كنّ على استعداد لأن ينتهين إلى المزايد الذي يدفع أعلى الأسعار، حيث كان النادي الليلي مجرّد واجهة مؤقتة للعرض. والملوم في هذا هو ضغوط ثقافة إسلاميّة محافظة، وكذلك تلك التشوّهات التي أحدثها تطوّر مُتفاوت. فالمرأة المُحترمة الصالحة للزواج هي تلك التي يُكتب لها الزواج قبل أن تبتعد كثيرا عن فترة المراهقة، ولذا لم يكن الصبا أو الجمال ليمنح الفتاة ميزة على الدوام، لأنّ والدها التقليدي قد يرتّب لها بسببٍ من ذلك تحديدا زيجة من رجل “ناضج” حسن الأحوال. أما من يخرجن من دائرة تلك الترتيبات فكنّ عرضة لكل صنوف الخزي والتحقير.
لا تنتمي تحيّة إلى ثقافة الفتيات الرخيصات أو النساء الساقطات التي يَسهلُ تعريفها، بل إلى عالم النساء التقدميّات اللواتي يتفادين الحواجز الاجتماعيّة أو يُزلنها. فقد ظلّت تحيّة مرتبطة بمجتمع بلادها ذلك الارتباط العضوي، نظرا لما اكتشفته لنفسها كراقصة ومحييةٍ للحفلات من دور آخر أكثر أهميّة. إنّه دور العالمةالذي كاد أن يُنسى والذي تحدّث عنه زوار الشرق الأوروبيّون في القرن التاسع عشر مثل إدوارد لين وفلوبير. فقد كانت العالمة محظيّة من المحظيات، إنّما إمرأة ذات مآثر بارزة. ولم يكن الرقص سوى واحدة من مواهبها الكثير: كالقدرة على الغناء وتلاوة القصائد، وطلاوة الحديث، وسعي رجال القانون والسياسة والأدب إلى رفقتها.
ولقد أُشير إلى تحيّة باسم العالمة في أفضل فيلم لها، ألا وهو لعبة الست (1946) الذي كان أيضا من بطولة نجيب الريحاني، أعظم الممثلين والكوميديين العرب في القرن العشرين، ذلك المزيج المُذهل من شابلن وموليير. ففي ذلك الفيلم تلعبُ تحيّة دور راقصة شابّة موهوبة وذكيّة، يستخدمها أهلها الأنذال للإيقاع بالرجال الأغنياء. أمّا الريحاني، الذي يلعب دور معلم عاطل عن العمل، فمُغرمٌ بها وهي تحبّه بدورها، لكنها تُدفع من قبل والديها إلى مكيدة تجلب لها الثراء بالإيقاع بثريّ لبنان. وفي النهاية تعود تحيّة إلى الريحاني في خاتمة عاطفية كثيرا قلّ أن سمحت بها بقيّة أفلامها الأخرى. وهي تؤدّي في هذا الفيلم رقصة قصيرة ومثيرة إلى حدّ الإدهاش، غير أنّ المراد لهذه الرقصة هو أن تكون أمرا ثانويّا تقريبا بالقياس إلى فطنة تحيّة، وذكائها، وجمالها.
ويبدو أنّ المُخرجين قد دأبوا بعد ذلك الفيلم على تثبيت تحيّة في نسخة أشدّ رداءة من هذا الدور، الذي راحت تعيده فيلما بعد فيلم. فهي المرأة الأخرى، نقيض البطلة الفاضلة، المقبولة محليّا، والأقل إثارة بكثير. غير أنّ مواهب تحيّة تُشعّ حتى ضمن تلك الحدود. فهي تدفعك للاعتقاد بأنّها أشدّ إثارة كرفيقة وعشيقة من المرأة التي تتزوّج البطل، فتبدأ بالتفكير بأنّ ذكاءها وإغراءها الشديدين هما ما يفرض تصويرها في صورة المرأة الخطيرة، العالمة التي هي أعلم، وأذكى، وأشدّ انفتاحا من أن يحتملها أي رجل في مصر المعاصرة. وما إن جاءت الخمسينات حتى غدت تحيّة النموذج الذي تنسج عشرات الأفلام المصرية على غراره في رسم صورة المرأة-الشيطان. ففي شباب امرأة، الذي يُعتبر فيلما كلاسيكيا متأخّرا، تلعب تحيّة دور أرملة قاسيّة تتضوّر جوعا للجنس وتؤجّر غرفة لقروي جميل وساذج وصل من القاهرة حديثا طلبا للعلم في الأزهر، فتغويه وتتجوزه، غير أنّه يفيق من سحر تحيّة الشبيه بسحر سيرسي** ما إن يلتقي ابنة صديقٍ للعائلة شبيهة بالملاك، فيتنكّر لتحيّة، ويهجرها سعيا وراء الصبيّة المأمونة المملة. غير أنّ هذه الحكاية العادية تشتمل على مشهد عظيم تسحب فيه تحيّة زوجها الشاب من احتفال في الشارع ترقص فيه راقصة فتيّة خلبت لبّ الطالب الغرّ. تأخذه تحيّة إلى البيت، وتُجلسه، وتقول له أنّها ستُريه الآن كيف يكون الرقص على أصوله. وهكذا تقدّم عرضا خاصّا مُلتهبا حقّا، مُثبتة أنها لا تزال –ولو صارت في أواسط عمرها- الراقصة الأبرع، والأذكى، والموضوع الجنسي الأشدّ إثارة للرغبة.
مثل كثير من المُغتربين الذين مثّلت تحيّة واحدا من رموز شبابهم الجنسيّة العظيمة، كنت أفترض أنّها ستظلّ ترقص ربما إلى الأبد. فتصوّر الصدمة العنيفة حين عُدتُ إلى هناك صيف العام 1975، بعد غياب عن مصر لخمس عشرة سنة، وقيل لي إن خبطة القاهرة المسرحيّة التي فاقت كل خبطة أخرى في عرضها المستمر هي من بطولة تحيّة كاريوكا وآخر أزواجها، فايق حلاوة، الذي قام أيضا بكتابة المسرحية، يحيا الوفد. وفي الليلة الثانية لوصولي إلى القاهرة، ذهبت إلى سينما ميامي القديمة، التي غدت الآن مسرحا في الهواء الطلق، وكلّي حماس وترقّب لأن أستعيد في هذه الفرصة النادرة شيئا من شبابي الذي كاد أن يُدفن. كانت المسرحيّة هزلية شديدة الطول والابتذال عن جماعة من القرويين المصريّين الذين فُرض عليهم وفد من الخبراء الزراعيّين السوفييت. وقد عَرَضت المسرحيّة بلا هوادة سماجة هؤلاء الروس وصرامتهم (كان السادات قد طرد جميع الخبراء الروس في عام 1972( وراحت تتغنّى بفضح المصريين الفطن لمُخططاتهم. وقد بدأت المسرحيّة حوالى الساعة التاسعة والنصف، لكنّي لم أستطع التحمّل أكثر من ساعتين ونصف الساعة (أي النصف) من هزلها الأحمق.
لقد شكّل ما آلت إليه تحيّة خيبة كبيرة بالنسبة لي. كانت تُؤدّي دور الفلاحة الأشدّ زعيقا وفظاظة، والتي أجّرت كبشها الفحل ليقوم بالتعشير والإلقاح (مع قدرٍ كبير من النكات السمجة عن الفحولة الجنسيّة). غير أنّ ما فاجئني وأذهلني هو مظهر تحيّة وأسلوبها. فلقد غابت المُغرية السمراء الضاربة إلى الصفرة، والراقصة الرشيقة بالغة الأناقة بإيماءاتعا المُؤدّاة على النحو الأكمل. وتحوّلت إلى قبضاي مُتبجح يزن 220 رطلا، وكانت تقف، ويداها على وركيها، وتكرّ الشتائم، وتقذف بأغلظ النكات القصيرة، وأضيق التوريات وأسهلها، بأسلوبٍ رخيص لا يكاد أن يكون أهلا للمشاهدة، كلّ ذلك في خدمة ما بدا على أنّه أردأ أنواع السياسات الانتهازيّة الموالية للسادات، والمعادية لعبد الناصر. كانت تلك مرحلة راحت فيها السياسة المصريّة تحاول إرضاء هنري كيسنجر، مُتخلية عن التزاماتها التقدميّة، والعربيّة، والعالمثالثيّة التي طبعت تاريخها بعد 1954 تحت حكم عبد الناصر. ولقد أحزنني أن أرى تحيّة وزوجها الصغير المهزول متورطين في شيء هكذا.
خلال الأربعة عشر عاما التي تلت تلك الزيارة إلى مصر، كان ثمة نتف وأجزاء من المعلومات التي أضفت مزيدا من التعقيد على صورة تحيّة. وعلى سبيل المثال، فقد أخبرني عالم اجتماع مصري مشهور أن تحيّة كانت على صلة وثيقة بالحزب الشيوعي في الأربعينات والخمسينات. كانت تلك، كما قال، “فترة تجذّر الراقصات الشرقيّات”. وفي عام 1988 علمتُ أنها كانت في أثينا مع مجموعة من الفنانين والمثقفين المصريّين والعرب الذين عزموا على ركوب “سفينة العودة” في رحلة إياب رمزيّة إلى الأراضي المقدسة. وبعد أسبوعين من الحظوظ العاثرة المتوالية فجّرت المخابرات الإسرائيليّة السريّة ذلك القارب وتمّ التخلّي عن المشروع. وسمعت بعد ذلك أن تحيّة قد برزت أيضا كواحدة من قادة نقابة ممثّلي السينما ومخرجيها ومصوّريها، وهي نقابة متقدّمة كثيرا من الناحية السياسيّة وشديدة الجهر بآرائها. فما هي إذا حقيقة هذه الراقصة التي بلغت الآن الخامسة والسبعين من عمرها والتي تبوأت موقعا رفيعا يكاد أن يكون مؤسساتيا في ثقافة مرحلة ما بعد السادات في مصر أواخر القرن العشرين؟
لقد ضربتُ موعدا مع تحيّة من خلال صديقتها نبيهة لطفي مخرجة الأفلام التسجيليّة. فإذا بها تعيش في شقّة صغيرة على بعد شارعٍ من المكان الذي رأيتها ترقص فيه منذ أربعين عاما. ورحّبت بي وبنبيهة بنُبلٍ مهيب لم أتوقعه. كانت ترتدي ثوبا أسود قاتما، وتضع ماكياجا حسنا، لكنها كانت تُغظي ذراعيها وساقيها بكمّين طويلين وجوربين غامقين مثل أيّ مسلمة تقية. كانت أقلّ ضخامة ممّا رأيتها في السابق، ولم يبدُ عليها أيّ ابتذال. ولقد أوحت بثقلٍ وسلطة بنيعان من كونها أكثر بكثير من مجرّد راقصة سابقة. لعلّها أسطورة حيّة، أو حكيمٌ شهير: العالمة شبه المتقاعدة. وراحت نبيهة تناديها بـ “الحاجة” وهو النعت الإسلامي الذي يُطلق على النساء الكهلات الواتي حججن إلى مكّة، وما عزّز هذه التسمية لم يقتصر على مظهر تحيّة الوقور إلى أبعد الحدود بل تعدّه إلى صور مكّة الكثير المعلّقة على الجدار والمصحف الذي تسهل رؤيته على الطاولة القريبة. وإذ جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، راحت حياتها تمرّ أمامنا في استعراضٍ مهيب.
فهي تنحدر من عائلة من الإسماعيليّة لها باعٌ طويل في السياسة، واسمها الحقيقي هو تحيّة محمد كريم. وكان البريطانيّون قد قتلوا عمّها، كما حمل ثلاثة على الأقل من أفراد عائلتها اسم نضال، كما قالت تحيّة بافتخار. أما أبوها فقد اُعتُقل لبعض الوقت. وبدا في تحيّة شيءٌ من طرطوف*** وهي تصف مشاعرها حيال الرقص- قالت إنّها تحسّ كأنّها في معبد- غير أن ذلك تبدّد وهي تحكي عن قناعاتها بأن رقصها كان يتخطّى إثارة الرجال كما تفعل بعض الفنانات، وقالت باقتناع مطلق: “حياتي، كراقصة، كانت حلوة، وأنا أحبّها”. ولقد عدّت تحيّة نفسها –محقّة، كما أرى- جزءا من نهة ثقافية كبرى، من حركة إحياء وطني في الفنون قامت على حركة سعد زغلول الاستقلاليّة الليبراليّة وثورته في العام 1919، حيث ضمّت الوجوه الفنيّة لهذه النهضة كُتابا مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، ومغنين مثل أم كلثوم وعبد الوهاب، وممثلين مثل سليمان نجيب والريحاني. وكانت تحية الفتاة الصغيرة قد تعلّمت الرقص على يدي بديعة مصابني، التي نصحتها بألّا تتسكّع في النوادي الليليّة والبارات حين تنتهي من تقديم وصلتها. وأضافت تحيّة بحزن أنها وجدت صعوبة كبيرة في استعمال الصنوج، لكنها أفلحت في ذلك آخر الأمر بفضل بديعة، المراة التي يأتي ذكرها على لسان تحيّة مقرونا بالحبّ والتبجيل.
ومع مجيء الشاي والبسكويت طلبتُ منها أن تحكي لنا عن حياتها السياسيّة. وكان ما قالته مفاجئا بالنسبة لي، إذ علمتُ لأوّل مرّة أنها كانت على الدوام منتمية إلى اليسار الوطني (حيث سجنها عبد الناصر في الخمسينيّات، كما قالت، لانتسابها إلى عصبة السلام، وهي منظمة موالية لموسكو) وأنها تستصغر شأن قادة مصر الحاليين. وسألتها عن يحيا الوفد الشنيعة. فقالت لقد نُظر إلى المسرحيّة على أنها مسرحيّة ساداتيّة، إلا أنها اعتبرتها مسرحيّة عن استعداد المصريّين الدائم للاعتقاد بأنّ الأجانب “أفضل منا”. وهذا التبرير غير المُقنع لما واصلتُ اعتباره مسرحيّة انتهازيّة مؤيدة للسادات ساق تحيّة إلى نقد عنيف لزوجها السابق، فايق حلاوة، الذي جرجرحها، كما قالت، من كارثة إلى أخرى. وسألتني: “ما الذي يجعلني، برأيك، أعيش هنا وليس في بيتي؟ لقد أخذه بكلّ ما فيه، بما في ذلك صوري وأفلامي، ولم يترك لي أي شيء”. وسرعان ما عادت الحيويّة لتحلّ محلّ المراثي حين سألتها عن الولايات المتحدة، التي سبق لها أن زارتها عدا من المرات. وكانت في إحدى هذه الزيارات قد قطعت أمريكا بالسيارة، في رحلة قالت إنها رائعة. “لقد أحببتُ الناس، لكنّني أكره سياسة حكومتهم”.
كان الحديث مع هذه المرأة المسنّة الجليلة أمرا مُبهجا بالنسبة لشخصٍ ترعرع على الأفلام المصريّة دون أن يعرف الكثير عن خلفيّتها، ومثّل له رقص تحيّة ذكرى غنيّة لم يسبق أن استكشفها بما فيه الكفاية. ولقد كانت تحيّة مصدر معلومات في عدد هائل من الموضوعات تحدّثت عنها جميعا بدفءٍ وظّرف، وسخرية شديدة الجاذبيّة. وفي لحظة قطع حديثها أذان العشاء مُنبعثا من مئذنة جامعٍ قريب هدارا يشقّ الأذن. وفي الحال صمتت تحيّة، وأغمضت عينيها، ومدّت يديها براحتيها المفتوحتين، وراحت تُرافق المؤذن في تلاوة الآيات. وما إن أنهت دعاءها حتى انفجرتُ بسؤال مُحدّد تماما ويائس كنت قد كتمته طويلا في داخلي، ربما منذ رأيتها ترقصُ عام 1950: “كم مرة تزوجت يا تحية؟” كان هذا أقربُ ما استطعتُ التوصل إليه في سؤالها عن الصلة بين حسيّة رقصها (وبسمتها المُدهشة تلك) وحياتها الخاصّة.
تبدّلت ملامحها تبدّلا صاعقا. ولم تكد تنهي صلاتها حتّى استقامت في جلستها ردا على سؤالي، وانتصب مرفقها على نحوٍ مستفزّ في وجهي، فيما راحت ذراعها الأخرى تلوّح في الهواء على نحوٍ خطابي. “كثيرا”، ردّت بحسم، وبصوتٍ ينمّ على الصفاقة التي يقرنها المرء بفتيات الليل. وبدت عيناها ونبرتها كأنّها تُضيف: “ومالو؟ لقد عرفت الكثير من الرجال”. ولكي تُخرجنا نبيهة، المدقّقة أبدا، من هذا المأزق الصغير، سألَتها عمّن أحبّت أو أثّر فيها من هؤلاء الرجال. فردّت بقسوة: “لا واحد. إنهم مجموعة من أولاد الزنا الخسيسين”. وأعقبت إعلانها هذا بسلسة من الحشو. وبعيدا عن استقالة الشيخوخة الورعة وعزلتها، فقد كشف هذا الجيشان عن شخصيّة فردانيّة ومُقاتلة. غير أنّني شعرتُ أيضا بتلك الروح الرومانسيّة لدى شخصٍ خُدع مرارا لكنّه على استعداد أن يقع في الحب من جديد إذا ما واتته الفرصة. لق أرّخت لنا تحيّة بتفصيل لا رحممة فيه آخر المتاعب التي عاشتها مع رجل، هو ذلك الوغد فايق حلاوة. غير أنّ تعاطفنا معها كان كاملا، شأنه حين راحت مع نبيهة تطاردان موزّع أفلام ثريّا كان يُحاول التلاعب بأمور النقابة. وتنهدت تحيّة قائلة: “آه من الرجال”، فيما عيناها تتطلّعان إليّ بفضول.
لقد عرفت تحيّة تقاليد عالمها وقوالبه، وكانت تحترمها إلى حدّ بعيد. فقد كانت ابنة مطيعة في الماضي في الماضي، وها هي الآن عجوز مسلمة تقيّة. غير أنّ تحية كانت أيضا رمزا لكل ما هو غير مُدار، وغير مضبوط، وغير مُختار في ثقافتها: لقد كانت حياة العالمة، والراقصة، والممثلة الفذّة حلا مثاليا لتصريف مثل هذه الطاقات. فبمقدورك أن تحسّ بتلك الشجاعة التي تبديها في علاقتها بمراكز السلطة، وبالتحدي الذي لدى امرأة حرّة. وحين ذهبتُ إلى أرشيف السينما المركزي في القاهرة في اليوم التالي للبحث عن صورٍ لها ومواد مكتوبة عنها، لم أجد سوى مسلخ، شقّة صغيرة في وسط المدينة التجاري، فيها من العمّال ما يفوق الحاجة، وفيها من التصاميم الغامضة لكتابة تاريخ مصر الفنّي الغني أكثر ممّا فيها من الخطط الرامية لتنفيذ ذلك. ووجدتُ حينئذٍ أن تحيّة هي تاريخها ذاته، تاريخٌ غير موثّق إلى حدّ بعيد لكنّه لا يزال مهيب الحضور، بل وهدّاما.
_____________________
* بالفرنسيّة في الأصل: المرأة الفاتنة المغوية التي تفتك الناس بسحرها.
** ساحرة في الميثولوجيا الإغريقية. يلتقيها يوليسيز في تطوافه فتحوّل رفاقه إلى خنازير، وتقع في حبّه وتحاول أن تستبقيه لديها.
*** الشخصية الشهيرة التي رسم صورتها موليير في مسرحيته بنفس الاسم، وهي شخصية ترمز، فيما ترمز، إلى النفاق والنفعيّة.
(نُشر هذا النص في جريدة “الأهرام” المصريّة عام 1990 ثم أعيد نشره في كتاب “تأملات في المنفى” الصادر عن دار الآداب البيروتيّة عام 2004 بترجمة ثائر ديب).
نقلا عن موقع : إقتصاد وسياسة