أولا: السياسة التركية، الانتظار والتّردد..
حكم السياسة التركية في المنطقة خلال السنوات الخمس الأخيرة عوامل الانتظار والتردد وإضاعة الفرص، فعندما اندلعت شرارة الأحداث السورية، والتي بدأت بمظاهرات شعبية في وجه نظام مخابراتي وديكتاتوري عاث في البلاد فسادا وقمعا وتخلّفا على مدى أربعين عاماً متواصلة، توجّهت تركيا للنظام السوري بمحاولة ديبلوماسية ، فزار وزير الخارجية التركي دمشق في العام ٢٠١١، أي في بداية الثورة السلمية، فقدّم النصائح، ودعا للتّعقُل ، وعدم التعرّض للمتظاهرين بالنار، وتحقيق المطالب المشروعة في حدّها الأدنى، وكانت المطالب ما تزال في ثوبها السلمي، وذهبت نتائج هذه الزيارة هباءً منثورا، وأمعن النظام السوري في نهجه القمعي، من إطلاق النار على المتظاهرين، واعتقال الناشطين، وتدمير المباني والمرافق الحيوية وتهجير أكثر من ثلث الشعب السوري، ولطالما ردّد كبار المسؤولين الأتراك بأنّ تركيا لا تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هول ما يجري في سوريا، ومع ذلك، ظلّ التردد والانتظار سيدا الموقف بعد مرور أكثر من خمس سنوات على بدء الثورة السورية.
كان الرئيس بشار الأسد قد ردّد مراراً ( وربما من المرات القليلة التي أصاب فيها) بأنّ نيران الحرب السورية لن يسلم منها أحد، الجيران والأقارب والأباعد (أوروبا)، وهذا ما حصل ويحصل، فلبنان في عين العاصفة، والعراق تعرّض لاجتياح الدواعش، الذين أقاموا دولة الخلافة في العراق وسوريا، ومقرّها الموصل، وتربطها بالنظام السوري أكثر من شبهة تبادل المنافع والأهداف، وما لبثت أن استفحلت الأزمة الكردية على طول الحدود الشمالية مع تركيا، وجاءت روسيا باساطيلها وطيرانها الحربي، وازداد الحضور الإيراني على طول الهلال الشيعي، وتركيا في وسط هذا الخضم، أزمة لاجئين سوريين، أزمة كردية، أزمة مع النظام السوري، وأزمة مع روسيا، وأزمة مع النظام العراقي، وحتى الإرهاب الداعشي لم تسلم منه تركيا ،والتي طالما اتّهمت بدعمه واحتضانه، حتى استفاقت أول أمس على محاولة انقلاب عسكري، لم يُكتب لها النجاح.
ثانياً النيران السورية، مخاطر تمدّدها..
حاول لبنان أن ينأى بنفسه عن لهب النيران السورية، إلاّ أنّه لم يسلم منها، فتدخل حزب الله، وغدت البلاد مُشرّعة أمام ويلات هذه الحرب المفتوحة، وحاولت تركيا النأي بنفسها، ولم تحزم أمرها بوجوب إسقاط النظام السوري والخلاص من بشار الأسد، فاكتفت بالتّفرّج على التّدخل الإيراني واللبناني والعراقي، مع شُذّاذ الآفاق ،الذين قدموا للجهاد، مع داعش والنصرة، ورضخت لموجبات الضغط الأميركي بالمحافظة على النظام، كُرمى لعيون إسرائيل ومصالحها ،فكان من الطبيعي أن تمتد النيران إلى قلب المؤسسة العسكرية وأصحاب الرؤوس الحامية الذين ما زالوا يعتقدون أنّ الانقلابات العسكرية تحمل الخير والسلام والتنمية للشعوب المقهورة ، فانتفض الشعب التركي للجم المغامرة العسكرية، وتثبيت الديمقراطية ولو بثوبها الإسلامي المنفتح على أبواب العلمانية التركية، على أمل أن لا يجري بعد اليوم، التهاون بالمسائل المصيرية، والتي تواجهها هذه المنطقة المنكوبة من اليمن إلى حتى ليبيا وتونس، وصولا حتى مالي، فالتهاون والانتظار، لا يُنتجان إلا الخيبات، والخسائر المجانية.