العمالة تبقى قضية مثيرة للجدل والنقاش في لبنان وتتشابك معها عوامل عديدة تزيدها غموضا. في أنحاء المعمورة، للعمالة مفهوم واضح لا غبار عليه إلا في لبنان بلد الإستثناءات في كل شيء.
تثير قضية العمالة الكثير من الإلتباسات ما تجعل العديد من العملاء يستغلونها للترشح إلى الإنتخابات البلدية حينا أو تسلم مناصب حزبية أحيانا أخرى، لا فرق ما دام قانون البلد يحمل مواد ملتبسة تقبل أكثر من تفسير وتأويل ما خلق ثغرات جعلت الحكم القضائي على أي قضية عمالة متناقضة في ظل ضغوط سياسية ومذهبية تطغى على مجريات الأمور في لبنان.
قانون العقوبات اللبناني والعمالة:
تناول قانون العقوبات اللبناني موضوع العمالة في ثلاث نبذات هي كالآتي:
في الخيانة: من المادة 273 حتى المادة 280.
في التجسس: من المادة 281 حتى المادة 284.
في الصلات غير المشروعة بالعدو: من المادة 285 حتى المادة 287.
في النبذة الأولى " الخيانة" وهي الأقسى، تصل العقوبة إلى الإعدام. وذكرت كلمة الإعدام 4 مرات في المواد 273 و 274 و 275 و 276. وباقي العقوبات هي: الأعمال الشاقة المؤقتة والأعمال الشاقة المؤبدة والسجن لخمس سنوات والإعتقال المؤقت. والملاحظ أن عقوبة الإعدام مرتبطة بزمن الحرب لا الأيام العادية، فبالإمكان القيام بجرم الخيانة والعمالة في زمن السلم من تزويد معلومات حساسة والتشجيع على العدوان على لبنان من دون نتيجة والإتصال فتحصل على عقوبة أقصاها أعمال شاقة مؤبدة وتخفض لاحقا بفعل الضغوطات السياسية والمذهبية، أما الإعدام فهي حصرا في الأعمال التي تمارس في زمن الحرب كحمل السلاح مع العدو ضد الوطن وإيصال معلومات للعدو وتشجيعه مع وقوع فعل العدوان.
في النبذة الثانية " التجسس"، لا يتم ذكر عقوبة الإعدام فيها أبدا، وتتراوح العقوبات ما بين سجن شهرين إلى الأعمال الشاقة المؤبدة. يحكم فيها على جرائم ترتبط بالإتصال مع العدو ودول أجنبية وتقديم وتسريب معلومات عن أماكن وشخصيات ومواقع حساسة وغيرها. وهنا لا تقتصر العقوبة على العملاء المرتبطين بالعدو بل تتجاوزها إلى الدول الأجنبية أيضا. وتبدو مواد هذه النبذة فضفاضة جدا وسهل الإجتهاد بها، فالمعلومة قد تكون أخطر من القتل وقد يترتب حتى عليها قتل لاحقا أو تدمير، وبالمقابل يعاقب فقط بعقوبة أقصاها أعمال شاقة، تخفض لاحقا بإجتهادات قضائية وضغوطات سياسية.
النبذة الثالثة هي " الصلات غير المشروعة بالعدو" وتتراوح العقوبة فيها بين الشهرين إلى السنتين وغرامة مالية تقدر ب 200 ألف ليرة لبنانية فقط لا غير. وتطال هذه النبذة أعمال لهدف التجارة والبيع مع رعايا العدو أو أحد الساكنين في بلاده. وبالطبع تعتبر هذه النبذة أهم مفتاح للعملاء للتلاعب على القانون وإستغلاله للقيام بأعمال عدوانية إتجاه الوطن ومصالحه.
مفارقة ملفتة:
هذه النبذات لم تتكلم عن هوية العدو، بل إقتصر القول على كلمة:" عدو" ولا يوجد ذكر أو تخصيص بالإسم ل "إسرائيل". وقد يعلق مراقب بأن الموضوع مبرر لقدم القانون ولكن مرت سنين وكان لا بد من ذكر إسم " إسرائيل" في النص القانوني لأنه يعطي قوة معنوية إضافية للمادة القانونية يصعب على أي مجتهد أن يتلاعب بها. أضف أن إسرائيل هي أكثر الدول بل أوحدها تقريبا من قامت بأعمال عدوانية إتجاه لبنان في العقود الأربعة الماضية.
ويمكن لفقهاء المادة القانونية تبني عبارة : " إسرائيل ودول العدوان على لبنان"، فلا يوجد مفر حينها من التصنيف الدقيق للحكم القضائي وواقعة العمالة.
ومن المفارقات السريالية أيضا هو ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني " الطائف" التي وضعت كمقدمة للدستور اللبناني ولم يذكر فيها عبارة " عدو إسرائيلي" أو " العدو الإسرائيلي " بل ذكرت عبارة " الإنسحاب الإسرائيلي" مرة وعبارة " الإحتلال الإسرائيلي " مرتين وعبارة " العدوان الإسرائيلي" مرة واحدة، وربطت هذه العبارات بالقرار الشهير 425 وقرار الهدنة مع إسرائيل. فقانونيا يمكن التلاعب على أحكام القانون ولي عنق المواد لإيجاد تفسيرات تتناسب مع مصالح العملاء وتحويل أفعالهم من تهم التعامل مع العدو إلى تهم التعامل مع دولة أجنبية، وستختلف الأحكام حكما وتكون تخفيضية. وهذا ما يشجع على العمالة أكثر في لبنان، لأنه لا يوجد حاضنة قانونية صلبة تتناسب مع جرائم العمالة والخيانة للوطن. وإذا ما إستطاع أي قاضي إصدار حكم الإعدام، فهو بحاجة لتأمين غطاء سياسي ومذهبي لقراره، وهذا نادر جدا في لبنان.
تحالف عون – حزب الله حول العملاء:
ورد في ورقة تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر الموقعة ب 6 شباط 2006 في الفقرة 6 ما يلي:
"اللبنانيون في إسرائيل:
انطلاقاً من قناعتنا ان وجود أي لبناني على أرضه هو أفضل من رؤيته على أرض العدو فإن حل مشكلة اللبنانيين الموجودين لدى إسرائيل تتطلّب عملاً حثيثاً من أجل عودتهم الى وطنهم آخذين بعين الاعتبار كل الظروف السياسية والأمنية والمعيشية المحيطة بالموضوع؛ لذلك نوجه نداء لهم بالعودة السريعة الى وطنهم استرشاداً بنداء سماحة السيد حسن نصر الله بعد الانسحاب "الإسرائيلي" من جنوب لبنان واستلهاماً بكلمة العماد عون في أول جلسة لمجلس النواب."
الفقرة لم تطلق لقب " عملاء" على الموجودين في إسرائيل بل تسميهم " اللبنانيون", وهي تدعو إلى عودتهم إلى بلدهم وحل قضيتهم آخذين بعين الإعتبار العديد من الظروف السياسية والامنية وغيرها, ولم يذكر في الفقرة أي دعوة للقتل أو دعوة لمحاكمتهم أيضا.
فهل تعتبر هذه الفقرة من ورقة التفاهم تغطية سياسية للعمالة في لبنان؟
بإنتظار دعوة قتل جديدة بإتجاه ورقة التفاهم, أو ستبرر هذه الورقة وهذه الفقرة بالتحديد؟
امام تعقيدات هذا الموضوع, يبقى القانون أفضل الموجود لمعالجة القضية حتى لو حصل الظلم.
الدعوة لقتل العملاء:
برزت في الآونة الأخيرة قضية الصحافي حسن عليق الذي حكم عليه غيابيا لدعوته لقتل العملاء. القضية تفاعلت كثيرا في البلد وسجلت حملات تضامن معه وبعيدا عن مشاعر التضامن، لنقترب ونتمسك أكثر بالقانون ولا ندع الأمور تأخذ مجرى مغاير يضعنا في موقف محرج نضطر فيه للإحتكام لشريعة الغاب، وسنبقى نحاول أن نستعرض مواد القانون لنعالج الثغرات فيه ونضيء على الخلل فنتمسك بما هو موجود لأنه أفضل من الفراغ واللاشيء، فالدعوة إلى القتل هي دعوة مخالفة للقانون نصا وروحا، وليس الإعلامي بالجهة المخولة قانونيا ورسميا للدعوة لهكذا أمر قد يترتب عليه تهديد للسلم الأهلي والأمن الداخلي حتى لو كان المستهدف بالدعوة عميلا.
وإذا كانت الدعوة لتصحيح القانون أو الإعتراض على موقف أو ثغرة فيه أمرا طبيعيا وضروريا، فمخالفة القانون بحجة تطبيقه هو أمر لا منطقي بل دعوة حق يراد بها هدم ما تبقى من مؤسسات وقانون في هذا البلد.
ولم يشرح الاستاذ حسن عليق، هل دعوته للقتل مقتصرة على العملاء أو تطال من أعطى الغطاء السياسي والحكم القضائي إتجاههم؟ و العميل فايز كرم معروف الإنتماء السياسي والجهة التي تغطيه، فلماذا لا تعمم الدعوة على هؤلاء أيضا؟ لأن العميل ومن يغطيه متساويان في الجرم والعقوبة.
فإذا كان صادقا في دعواه ومبتغاه، يجب أن لا تكون دعواه مقتصرة فقط على هؤلاء العملاء، والذين بالمناسبة أصبحوا جزءا من النسيج السياسي والنخبوي والإجتماعي في بيئة لبنان بشكل عام وبيئة الجنوب والبقاع بشكل خاص واللتان تعدان أكثر منطقتين تعرضتا للضرر بسبب العملاء وتصرفاتهم.
فلا داعي للتكهنات والتصرف بمثالية مفرطة في هذا الموضوع، لأن الجميع بات يعرف أن الموضوع له إرتباطات مذهبية قد تزعزع نسيج السلم الأهلي في لبنان في حال عولج الموضوع بطريقة خاطئة وإرتجالية بعيدة عن المهنية.
سوابق جريدة الأخبار:
دعوات القتل ليست جديدة على جريدة الأخبار والصحافي حسن عليق والعاملين فيها, فهم دائما ما يستغلون مواضيع تدغدغ عواطف الناس ومشاعرهم ليركبوا على موجتها ويوجهون رسائل لا تخلو من التهديدات بالقتل والإغتيال.
فقبلها وجهت الجريدة دعوة لقتل ما إصطلح على تسميتهم ب "شيعة السفارة" وهم مجموعة من المثقفين والإعلاميين والسياسيين المعارضين لحزب الله وقيلت وقتها العبارة المشهورة " تحسسوا رقابكم", في تهديد علني وواضح لهم بالقتل, وهذا التهديد في دولة تمتلك حد أدنى من القانون والمسؤوليات, ولم يحاسب أحد أو يراقب أحد هذا التصريح.
وهذا التصريح يعكس الإيديولوجية التي تتبناها هذه الجريدة وتربي صحافييها عليها وهي تبشر اللبنانيين بمستقبل لدولتهم يشبه هذه الإيديولوجية, حيث شريعة الغاب وأخذ الحق باليد وعدم الإحتكام للقانون.
فمجرد أن تخالف رأي هذه الجريدة أو حتى حزب الله, تراها ترسل رسائل تهديد مبطنة, في أسلوب بعيد كل البعد عن العمل الصحافي الراقي الذي يرفض هذه الأمور.
فعمالة فايز كرم أمر محتوم ويجب أن يحاكم على هذه الفعلة الشنيعة والقبيحة, ولكن بالقانون, فإذا كان القانون يحتوي على ثغرات, دعوتنا تكون لإصلاح هذا القانون وتطويره لا لقتل هذا العميل أو ذاك.
وعلى جريدة الأخبار والصحافي عليق ان يدرك حقيقة جلية هي أن عهد محاكم الشوارع والمشانق التي كانت تعلق في الاحياء قد إنتهى زمانها وتبرأ منها أصحابها, فقبيحة هي الدعوة الى العودة لذاك العهد وجميلة هي الدعوة للتمسك بالقانون والمطالبة بتطويره لكي ينال العملاء العقوبة المناسبة.
وأيضا عليه أن يدرك, أن لا فرق بين عميل ساهم في تخريب الدفاع الوطني والأمن القومي وبين مشروع قاتل يتغطى بمهنة شريفة "صحافي" يدعو إلى الفتنة والقتل وتهديد أمن المجتمع وما تبقى من وحدة وطنية.
وعلى جريدة الاخبار ان تعي أنها تنتمي لمهنة شريفة وراقية, وأسلوبها في تهديد الناس سينقلب عليها دعوات للمقاضاة, فهي ليست مخولة لأن تقاضي الناس, في ظل وجود القضاء.
وفي اللحظة الحرجة التي يقف الجميع فيها أمام ساحة الوضوح في زمن التسويات, سترى حينها أنها خسرت الرهان وخسرت مصداقيتها بين العالم, فتندم.
الحل يبقى موجودا:
لأن لبنان يعادي إسرائيل بحكم الأمر الواقع وليس القانون، عليه إيجاد جميع المبررات الدستورية والقانونية لمكافحة ظاهرة العمالة. فالعمل ضروري من أجل سد الثغرات التي يستغلها العملاء لتبرير أفعالهم وتمرير مخططاتهم.
وهذا بحاجة إلى جهد مشترك من قبل مختصين لا أناس لا يملكون خبرة ولا قدرة سوى التنظير ودعوة الناس إلى الثأر والعودة إلى تصرفات لا تمت لعالم اليوم بصلة، في حين أن العالم يتجه نحو حكم المؤسسات والقانون وتكريس حكم الدستور.
وهذا الجهد يجب أن يختزل في إختصاصيين وأصحاب رأي ومقدرة علمية وخبرة قانونية وثقة ومصداقية ووطنية، ولا يرضخون لصغوطات سياسية وأمنية ودينية.
والنجاح يبدأ دائما بفعل إيمان بوطن وأرض يرسمه العظماء ويسطرون في التاريخ أعظم الملاحم أما العملاء فهم الأحياء الذين يموتون كل يوم.
والسجن دائما يتشاركه عميل ومشروع قاتل.
لا فرق بينهما.