من تحت أنقاض الدولة، خرج مجلس الوزراء، أمس، ليؤكد المؤكد: كل المؤسسات الدستورية في حالة موت سريري.
تلك الحقيقة كانت محور جلسة الثلاث الساعات التي خصصت للاستماع إلى تقرير وزير المال علي حسن خليل عن الوضع المالي للبلاد، والذي أكد بالأرقام أن الاهتراء عصي على الحل في زمن الشغور الشامل. رددها خليل «لا وجود لدولة حقيقية»، فمجلس النواب لا يعمل والحكومة بالكاد تصرّف الأعمال، والوزراء لم يشعر أي منهم أن سيف المساءلة النيابية مصلت فوق رأسه.
وغياب الدولة، مضافاً إلى الأزمات الكبرى التي تواجه المنطقة، جعل من الجلسة الحكومية، على أهمية ما تم كشفه من أرقام خلالها، مجرد صرخة لن يخرج صداها أبعد من جدران السرايا الحكومية.
والجلسة، التي لم يتسع وقتها للنقاش بالأرقام التي طرحها وزير المال وستستكمل يوم الاثنين المقبل، أعادت التذكير بملفات، ربما أراد البعض أن ينساها أو يتناساها. مرّر خليل ملحقاً للتقرير الذي أعده عن المالية العامة يوضح فيه مسار الحسابات العالقة منذ العام 1993 وحتى العام 2010. وأعلن إنجاز ستة حسابات، واعداً بإنجاز الأربعة الباقية بأسرع وقت ممكن «حتى نواكب أي حاجة لاقرار اجراءات بالمرحلة المقبلة تتعلق بالمحاسبة والمساءلة».
ولأن الرئيس فؤاد السنيورة كان المسؤول مباشرة عن وزارة المال في تلك الحقبة، فقد كان ذلك كافياً لتستنفر «كتلة المستقبل»، أمس، وتخصص معظم بيانها للرد على خليل، متهمة وزارة المال بالتقاعس عن تدبير وتأمين ما أمكن من المصادر المالية الصحيحة والمجدية لتعزيز واردات الخزينة. كما ركّزت على «المظاهر التي لم تعد تخفى على أحد حول الانفلات المالي في إدارة المال العام وتفشي الفساد والرشوة والهدر المالي المتفلت من أية ضوابط حقيقية».

أما خليل فلم يتأخر بدوره في الرد، مستغرباً خروج السنيورة عن طوره بعد إعداد دراسة مالية علمية، متحدياً إياه اللقاء أمام الأجهزة القضائية والرأي العام، لنلاحقه بتهمة الفساد والرشوة والهدر المالي.
مشادة بين المشنوق والسنيورة
لكن خليل لم يكن وحده من رد على السنيورة. سبقه الوزير نهاد المشنوق إلى ذلك، ومن داخل قاعة الاجتماعات «المستقبلية». إذ عُلم أن وزير الداخلية، الذي حضر جزءاً من اجتماع الكتلة، دخل في نقاش وصل إلى حد المشادة مع السنيورة في موضوع السياسات المالية للحكومة، مشيراً إلى أنه «ليست هذه هي الحكومة التي يطلب منها سياسة مالية طويلة الأمد في الوقت الذي تتصرف على أساس أنها حكومة انتقالية محدودة الوقت والفعل، وتغلب على نقاشاتها الخلافات السياسية فضلاً عن تحديات وجودية تواجهها. وأشار المشنوق، بالتالي، إلى أن خليل يتصرف باعتبار الحكومة حكومة انتقالية في ظل غياب الموازنة لأسباب سياسية بحتة لا علاقة لها بالشأن المالي.
هذا الاشتباك السياسي الأول من نوعه منذ وقت طويل بين «أمل» و «المستقبل»، لم يحجب الأرقام التي عرضها خليل في جلسة مجلس الوزراء، والتي بالكاد تمكن الوزراء من التقاطها، وإن خرجوا متفائلين بأن الوضع مقلق لكن ليس كارثياً.
خليل: شرطان لعودة الدولة
مالياً، لا صوت يعلو فوق صوت إقرار الموازنة. فهو السبيل الوحيد لضبط الإنفاق وعودة الدولة إلى سكة القانون التي صار الجميع يتنافس للبقاء خارجها، تماماً كما اعتاد الوزراء التحرر من الالتزام بموازنات وزاراتهم، والحصول على الاعتمادات من الاحتياطي واعتماد العشوائية في المطالب.
ولذلك، أعاد علي حسن خليل الطلب من الحكومة ما كان طلبه في كتاب رسمي قبل سنة. المطلوب من الحكومة، بعد استلامها موازنة العام 2017 في نهاية آب المقبل، مناقشتها وإقرارها في الموعد الدستوري (قبل 15 تشرين الأول المقبل). وإذا لم يقرها مجلس النواب، قبل نهاية السنة، فلتعمد إلى إصدارها بمرسوم. وهذا اقتراح من الواضح أن الرئيس نبيه بري ما زال يغطيه، برغم ما يعنيه من إعطاء الحكومة صلاحية تشريعية أساسية.
مع ذلك، فإن ما حصل في العام الماضي والأعوام التي سبقته، ما يزال يسري مفعوله في الوقت الراهن، ولعل أكثر المتفائلين لن يصدق أن أوان الموازنة قد آن أو أن «الدولة الحقيقية» ستعود. لكن ذلك لم يمنع وزير المال من الإصرار على إشراك الحكومة مجتمعة في تحمّل المسؤولية، عارضاً تقريراً للوضع لم يشأ توزيعه على الوزراء، أرفقه بعدد من الاقتراحات لتحسين الإيرادات وضبط النفقات، مع يقينه أن كل الأفكار التي طرحت أمس أو تلك التي ستطرح الاثنين المقبل، ستبقى حبراً على ورق ما لم يتحقق شرطان: الأول، انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تفعيل عمل المؤسسات، وثانيا، إقرار الموازنة.
بداية لا بد من التذكير أن سقف الإنفاق المقونن يقدر بنحو 18 ألف مليار ليرة (موازنة العام 2005 بعد حسم المبالغ التي كانت مرصودة لقوانين البرامج مضافاً إليها قوانين الاعتمادات الإضافية التي أقرها مجلس النواب على التوالي). كما أن الوزارة تتوقع أن تصل نفقات 2016 إلى 20393 مليار ليرة، فيما يُتوقع لإيرادات العام نفسه أن تصل إلى 15100 مليار بعدما كانت 14435 ملياراً في العام 2015.
مؤشرات مالية مطمئنة
أما في المؤشرات التي أعلنها خليل، فتأكيد على أن التدابير التي اتخذتها الوزارة، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط وتحويلات وزارة الاتصالات أدت إلى خفض العجز الكلي، وتحقيق فائض أولي (من دون احتساب كلفة الدين) بقيمة 1090 ملياراً في العام 2015.
وإذا كان هذا الرقم قد طمأن الوزراء نسبياً، فإنه لا يلغي حقيقة أن العجز الكلي وصل في العام 2015 إلى 5958 ملياراً، وهذا الرقم يعتبر نسبياً مقبولاً إذ أنه لم يزد سوى 0.7 في المئة عن عجز العام 2012. وقد ساهم ضبط الإنفاق العام في ذلك، إضافة إلى تحويلات الاتصالات وتخفيض فاتورة الكهرباء.
أما الإيرادات، قياساً على الناتج المحلي، فانخفضت ما بين العامين 2010 و2015، من 21.8 في المئة إلى 19 في المئة. فيما زادت النفقات قياساَ إلى الناتج المحلي من 29.4 في المئة في العام 2010 إلى 26.6 في العام 2015. وهي مقسمة على الشكل التالي: 7080 مليارا مخصصات رواتب وأجور وملحقاته (35 في المئة)، 6842 ملياراً لخدمة الدين العام (34 في المئة)، 900 مليار نفقات استثمارية (4 في المئة)، 2322 ملياراً تحويلات لكهرباء لبنان (8 في المئة) و19 في المئة نفقات متفرقة.
ومن الملاحظات التي قدمت أن كهرباء لبنان كلفت الدولة اللبنانية ما بين العامين 2010 و2015 نحو 10 مليارات دولار، فيما توقف عدد من الوزراء عند ما ورد في التقرير بأن الإدارة اللبنانية لا تستحوذ على أكثر من 10 في المئة من بند الرواتب، وتذهب الـ90 في المئة الأخرى إلى قطاعي التربية والعسكر، بما يناقض كل المساعي التي تبذل لمنع التوظيف أحياناً وتخصيصها أحياناً بحجة تخفيض النفقات العامة.
وإذا كان الدين العام هو أهم العناصر التي ترهق الخزينة اللبنانية، فقد شرح خليل لزملائه كيفية تطوره، معلناً أنه وصل حالياً إلى 66 مليار دولار، 61 في المئة منها بالعملة اللبنانية.
اقتراح بتفعيل هبات النازحين
انتهى السرد وجاء وقت الخطوات العملية المقترحة من قبل وزارة المال. فإضافة إلى العنوانين الأساسيين أي الاستقرار الدستوري ـ السياسي وإقرار الموازنة، اقترح وزير المال تفعيل الهبات في موضوع النازحين السوريين بدل القروض. وأشار إلى أن كلفة أزمة النزوح بلغت 15 مليار دولار، موضحاً أن الكلفة السنوية تصل إلى 30 في المئة من الناتج المحلي. وأشار إلى أن لبنان طالب في العام 2015 المجتمع الدولي ب2140 مليون دولار، لكنه لم يحصل سوى على 1100 مليون دولار، ما يؤثر سلباً على مجمل الاقتصاد.
كما طالب بإقرار المراسيم والقوانين العالقة، ولاسيما منها 17 قانوناً في مجلس النواب، تتعلق بالشفافية في الصفقات العمومية والنفط والغاز والاثراء غير المشروع ونظام ديوان المحاسبة والشراكة بين القطاعين الخاص والعام والعلاقة مع المؤسسات الدولية.
ودعا خليل إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب لما لها من أثر إيجابي على الاقتصاد بشكل عام، مع تأكيده على أهمية إقرار الإصلاحات المرتبطة بها، وأبرزها توسيع نطاق الضريبة والانتهاء من مرحلة تركيزها على الطبقات الفقيرة والمتوسطة بحيث تشمل «مطارح ضريبية ما زالت حتى هذه اللحظة محمية وتجاهلها يترك أثراً سلبياً كبيراً على واقعنا كالقطاعين العقاري والمصرفي».
كما اقترح خليل إعادة تحريك بعض القطاعات الانتاجية واستحداث منطقة اقتصادية في البقاع تستفيد من وجود مطار رياق أسوة بالمنطقة الاقتصادية في طرابلس التي تستفيد من مرفأ طرابلس، وهما مرفقان يفترض أن يكون لهما دور أساسي في مرحلة التحضير لمرحلة إعادة إعمار سوريا.