تشكل الأرض السورية اليوم مساحة صراع يتخذ أشكالا وأبعادا مختلفة، بدأ من ثورة على نظام الاستبداد قام بها الشعب السوري، لكنه اتخذ وجوها مختلفة من الصراع الإقليمي والدولي، فرضت إيقاعها بقوة، على جوهر المواجهة المتمثلة بانتفاضة الشعب السوري على نظام بشار الأسد.
نجح نظام الرئيس بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، في فرض معادلة جديدة، اتسمت بفرض أجندة “الحرب على الإرهاب”. وما كان لهذه الأجندة أن تفرض شروطها إقليميا ودوليا إلى حدّ بعيد، لولا أن الولايات المتحدة الأميركية بدت غير مهتمة بانتقال النظام السوري من نظام توليتاري إلى مرحلة جديدة تفتح سوريا على أفق ديمقراطي. كما أن إسرائيل تدرك أن أي تحول في حكم سوريا، من دكتاتورية الأسد إلى أي نظام آخر، لن يـكون مضمونا لجهة التزامه بمقتضيات الهدنة والاستقرار التي كان لنظام الأسد دور مميز في حمايتها على حدود الجولان المحتل مـنذ العام 1974.
ليس هذا جديدا في قراءة الأزمة السورية خلال السنتين الأخيرتين، ولا يمكن تغييبه حين الحديث عن مأساة الثورة السورية التي وقعت ضحية شراسة المعادلات الإقليمية والدولية من جهة، وسطوة الاستبداد الذي يهيمن على أنظمة الحكم في العالم العربي من جهة ثانية.
من هذه الثنائية غرفت الحركات الإرهابية واستفادت، وتستفيد، من نقمة شعوب المنطقة على أنظمتها، ومن عجز هذه الشعوب عن تغييرها.
أما إذا تحققت لهذه المنظمات الإرهابية السيطرة والتحكم وتشكيل كيانات أو دول تحت مسمى “الخلافة”، فالأرجح أن مثل هذه الكيانات لن تكون أفضل حالا من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة التي تحكم معظم العالم العربي والإسلامي.
التدمير الذي يطال سوريا اليوم، أسوة بالعراق واليمن وليبيا، هو تدمير تجاوز الحجر إلى تدمير المجتمعات، فقد بات الحديث عن تقسيم سوريا، على سبيل المثال، مشروعا قابلا للتحقق ليس فقط برغبة الدول المؤثرة، بل حتى المكونات السورية لكثرة ما استنزفها الصراع المذهبي أو الإثني، باتت مستعدة للخوض في غمار تقسيم ما، ترتجي من خلاله استقرارا ولو كان وهميا.
الصراع الإقليمي والدولي الذي تشهده الأرض السورية ليس صراعا على سوريا، ولا على من يكون حاكما لهذا البلد أو لأجزائه. بل أظهرت مجريات الصراع أن الميدان السوري يرسم معادلة إقليمية دولية تتحكم بالمنطقة العربية إلى عقود آتية لا إلى سنوات.
وأبرز ما يمكن ملاحظته في هذا الصراع هو ما سيظهر، بقوة، خلال المرحلة المقبلة عبر الدور الإسرائيلي الذي يفرض نفسه لاعبا أساسيا في المنطقة، ومركز جذب لأطراف الصراع الإقليمي والدولي في سوريا.
لذا ليس عاديا أن تلتفت تركيا مجددا إلى أهمية الدور الإسرائيلي، إذ حين ظنّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن من شروط الزعامة في المنطقة العربية والإسلامية الابتعاد عن إسرائيل، اكتشف لاحقا أن هذا الشرط لم يعد أساسيا بل لم يعد له أي تأثير في بناء الزعامة العربية والإسلامية. من هنا أعاد أردوغان المياه إلى مجاريها مع إسرائيل، محاولا استباق ما قطعته قوى الممانعة من خطوات باتجاه إسرائيل.
المنافسة على استرضاء إسرائيل هي ديدن دول المنطقة اليوم، وهي الوسيلة الأفضل للحدّ من الخسائر ولحفظ ما تبقى من موارد وإمكانيات لهذه الدول.
ولم يعد خافيا أن إيران، التي طالما استطاعت أن تستخدم فكرة العداء لإسرائيل، من أجل اختراق الدول العربية، ومحاولاتها الحثيثة لعسكرة المجتمعات على حساب مشروع الدولة، باتت اليوم إزاء حالة العداء التي تواجهها في العالم العربي وفي محيطها الإسلامي، معنية بتثبيت لغة التهدئة مع إسرائيل، بل هي تندفع إلى محاولة إغراء إسرائيل بتأمين المزيد من شروط الاستقرار على حدودها اللبنانية والسورية، في مقابل مثابرة إسرائيل على منع سقوط نظام بشار الأسد.
المعادلة التي اختارتها إيران في المنطقة العربية تفضي، بالمعنى الإستراتيجي، إلى تقاطع موضوعي مع إسرائيل. ذلك أن الصراع الذي اتسم بتعزيز الأيديولوجيا المذهبية، وحماية الأقليات، وتقديم هذه العناوين الفرعية على أولوية بناء الدول وتعزيز الوحدة الوطنية، وحماية ما تبقى من عناوين وحدوية إسلامية، كفيل بأن يجعل إسرائيل طرفا مقررا في معادلة الصراع الإقليمي وفي سوريا تحديدا.
الخطوة الروسية لبناء علاقة تحالفية مع إسرائيل على صعيد المنطقة العربية، والتنسيق مع إسرائيل في سوريا بما يحفظ شروط الأمن الإسرائيلي، هي خير دليل على مدى أهمية الدور الإسرائيلي في صَوْغ المعادلة الإقليمية والسورية.
وقد شكلت روسيا الطرف الضامن لدول الممانعة، وعلى رأسها إيران، في تأمين شروط علاقة مستقرة وهادئة مع إسرائيل. ربما اكتشفت تركيا أن تراجع علاقتها مع إسرائيل هو ما جعلها عرضة للاستهتار الأميركي بمصالحها الإقليمية، وهدفا روسيا سعى الكرملين إلى تطويعه والحدّ من طموحاته.
لذا أعاد رجب طيب أردوغان الحياة إلى العلاقة مع إسرائيل، تلك العلاقة التي كانت شرطا أساسيا لإعادة التوازن لعلاقته مع روسيا.
الباب الإسرائيلي هو الباب الوحيد الذي بات الدخول منه شرطا لحماية نظام مصالح الدول الإقليمية في المنطقة من روسيا إلى إيران وصولا إلى تركيا.
أما نظام المصالح العربي فهو شبه غائب عن المعادلة، بل هو الهدف الذي تتقاطع الدول الإقليمية على إضعافه، تمهيدا لوراثة ما تبقى من نفوذه ودوره.
صحيفة: العرب